حول الاختلاف في ميقات صلاة الفجر في كندا
السؤال:
فضيلة الشيخ الدكتور صلاح الصاوي حياكم الله ومتَّعكم بموفُور الصحة والعافية، أقدم نفسي لفضيلتكم:
حسين عامر إمام المركز الإسلامي الجسر بلافال بكندا، وعضو المجلس التنفيذي لمجلس أئمة كيبك؛
حيث فوضني المجلس للتواصل مع فضيلتكم لاستصدار بيانٍ شرعي عن توقيت صلاة الفجر الصحيح:
نحن في المجلس نتابع تقويمَ الإسنا، وبعض المساجد التابعة للإخوة الباكستان لها تقويمٌ خاص بهم،
وللأسف يفتي شيخُهم بأن الصيام على تقويم الإسنا يبطل الصيام؛ لأنه إمساك بعد دخول وقتِ الفجر.
ومضينا على هذا الحال دهرًا حتى تجدَّدت الدعوى مرَّةً أخرى، وبدأ بعض الأئمة يأتي بأبحاث شرعية وفلكيَّة تثبت خطأَ
تقويم الإسنا على حدِّ قوله، وأن الإسنا تراجعت عن هذا التقويم، وهو يدعو الآن لمؤتمر للمساجد بمونتريال لشرح وجهة
نظره…..إلخ.
اتصلنا بالإسنا على موقعهم وهواتفهم للتأكد من الأمر، وهل فعلًا تراجعوا عن توقيت صلاة الفجر أم لا، لكن للأسف لم يُفيدنا أحد.
فاتفقنا في اجتماع الأمس أن نراسلَ فضيلتكم لشخصكم الكريم- لكون فضيلتكم محلَّ توافق بين أغلب الأئمة هنا في مونتريال،
وكون فضيلتكم أمين مجمع فقهاء الشريعة، وسهولة اتصالك بالإخوة في الإسنا- للحصول على فتوى شرعية صادرة عن فضيلتكم
لنُعمِّمَها على المساجد في مونتريال؛ درءًا للفتنة واتباعًا للحق.
وأرجو أن تتضمن الفتوى التأكيدَ على أمرين:
الأمر الأول- وهو الأهم- هل قامت الإسنا بتغيير توقيت صلاة الفجر؟
الأمر الثاني: صحة صيام وصلاة من صلَّى وصام على توقيت الإسنا؟
جزاكم الله عنا خيرًا وبارك فيكم وأدامكم ذخرًا للإسلام والمسلمين.
عن مجلس أئمة كيبك حسين عامر.
الجواب
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه؛ أما بعد:
فإن الحديث في هذه المسألة قديمٌ، ولو تتبعناه في كتب أهل العلم لوجدناه ضاربًا بجذوره في أعماق تاريخ طويل،
فينبغي أن نتحلى بالرويَّة والأناة ونحن ننظر في هذه المسألة، ولا يجوز أن نجعلها مدخلًا للاحترابِ والتراشقِ بالتُّهم والمناكر،
لاسيما بالنسبة لمن يعيشون مُغتربين خارج ديار المسلمين.
لقد علم شرعيًّا وفلكيًّا، أن ثمَّة فَجْرَين: فجرًا كاذبًا، وفجرًا صادقًا، وأن الكاذب يطلع قبل الصادق بـنحوٍ من عشرين دقيقة،
تزيد قليلًا أو تنقص، حسب فصول السنة.
والفجر الكاذب كما هو معلوم يُحلُّ الطعامَ للصائم، ويُحرم صلاةَ الفجر، والفجر الصادق يُحرم الطعامَ، ويُحلُّ صلاةَ الفجر.
وقال صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ بِلَالًا يُؤَذِّنُ بِلَيْلٍ، فَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يُؤَذِّنَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ»([1]).
ويبدو أن المشكلة قد بدأت من أن معظم الفلكيين والخبراء لا يفرقون بين الفجرين، ويرون أن أولَ ضوء هو الفجر عندهم،
فلذلك وضعوا التقاويم بناءً على ذلك، فإذا رجعنا إلى الشرع وجدنا أن الضوءَ الأول هو الفجرُ الكاذب،
ومن هنا نشأ الالتباس والخطأ، وكان مقداره- مقدار ما بين الفجرين- وهو عشرون دقيقة،
تزيد ثلاثة دقائق أو تنقص حسب طول الليل والنهار.
وصفوة القول إن وقت صلاة الفجر أو الصبح من طلوع الفجر الصادق: وهو البياض المعترض في الأفق يمينًا ويسارًا، ويمتد الوقت إلى طلوع الشمس،
وقد اختلف العلماءُ هل يبدأ وقت الصلاة عند بزوغ أول إضاءة للفجر الصادق وهو ما يسمى
بـ(الغَلَس)؟ أو أنه يحين عند انتشار إضاءة الفجر وهو ما يسمى بـ(الإسفار)؟ وتلك مسألة اجتهادية.
وأما الفجر الأول فهو الفجرُ الكاذب، وهو البياض المستطيل في السماء من أعلى الأفق إلى أسفل كالعمود،
ويقع قبل الفجر الصادق بنحوِ عشرين دقيقة، تزيد وتنقص باختلاف فصولِ السنة، ومعلوم أن الأحكام تترتب على وجود الفجر
الصادق لا الكاذب.
وقد جاء في بيان الفجرين أحاديثُ كثيرة، منها: قوله صلى الله عليه وسلم: «الْفَجْرُ فَجْرَانِ؛ فَجْرٌ يَحْرُمُ فِيهِ الطَّعَامُ،
وَتَحِلُّ فِيهِ الصَّلَاةُ، وَفَجْرٌ تَحْرُمُ فِيهِ الصَّلَاةُ– أي صلاة الفجر- وَيَحِلُّ فِيهِ الطَّعَامُ»([2]).
وقوله صلى الله عليه وسلم: «الْفَجْرُ فَجْرَانِ؛ فَأَمَّا الذي يَكُونُ كَذَنَبِ السِّرْحَانِ فَلَا يحِلُّ الصَّلَاةَ وَلَا يحَرِّمُ الطَّعَامَ،
وَأَمَّا الذي يَذْهَبُ مُسْتَطِيلًا في الْأُفُقِ فأنه يُحِلُّ الصَّلَاةَ وَيُحَرِّمُ الطَّعَامَ»([3]).
وقوله صلى الله عليه وسلم: «لَا يَمْنَعَنَّكُمْ مِنْ سحُورِكُمْ أَذَانُ بِلَالٍ، وَلَا الْفَجْرُ الْـمُسْتَطِيلُ، وَلَكِنِ الْفَجْرُ الْـمُسْتَطِيرُ
فِي الْأُفُقِ»([4]).
هذا وإن أبرز التقاويم التي يعتمد عليها الناس الآن:
1- تقويم أمِّ القرى، وزاوية الشمس تحت الأفق عند الفجر 18.5 درجة.
2- تقويم رابطة العالم الإسلامي، وزاوية الشمس تحت الأفق عند الفجر 18 درجة.
3 ـ تقويم جامعة العلوم الإسلامية بكراتشي باكستان، وزاوية الشمس تحت الأفق عند الفجر 18 درجة.
4 ـ تقويم الهيئة العامة المصرية للمساحة، وزاوية الشمس تحت الأفق عند الفجر 19.5 درجة.
5- تقويم الاتحاد الإسلامي بأمريكا الشماليةIslamic Society of North America- ISNA المعروف اختصارا بـــ (إسنا) ISNA،
وزاوية الشمس تحت الأفق عند الفجر 15 درجة.
وفيما عدا تقويم إسنا فقد وضعت هذه التقاويم جميعًا على أساس الشفق الفلكي، والشفق الفلكي هو الفجرُ الكاذب
وليس الفجرَ الصادق.
وقد لاحظ الشيخان ابنُ عثيمين والألباني هذه المسألة ونبَّها على ضرورة تأخير صلاة الفجر بنحوٍ من عشرين دقيقة إلى خمس
وعشرين دقيقة عن التوقيتات المعلنة في التقاويم الفلكية؛ استبراء للدين، والتماسًا لصحة العبادة،
واستبراءً للذمة، بل أشار إلى ذلك الـحافظ ابن حجر العسقلاني في «الفتح»، قال: «(تنبيه): من البدع المنكرة ما أحدث
في هذا الزمان من إيقاع الأذان الثاني قبل الفجرِ بنحو ثلث ساعة في رمضان، وإطفاء المصابيح التي جُعلت علامةً لتحريم
الأكل والشرب على من يريد الصيام، زعمًا ممن أحدثه: أنه للاحتياط في العبادة، ولا يعلم بذلك إلا آحادُ الناس،
وقد جرهم ذلك إلى أن صاروا لا يؤذنون إلا بعد الغروب بدرجة، لتمكين الوقت، زعموا فأخروا الفطر، وعجلوا السُّحور،
وخالفوا السنة، فلذلك قلَّ عنهم الخير، وكثر فيهم الشر، والله المستعان»([5]).
وقد ألَّف الشيخُ تقي الدين الهلالي كتابًا سماه «بيان الفجر الصادق وامتيازه عن الفجر الكاذب» قال فيه:
«وأوسط الأقوال الذي نفْتِي به ونَعْمَل به أخذًا من هذه الأحاديث كلها: أن الفجر الصادق الذي يحَرِّم الطَّعام على الصائم
ويحِلُّ الصَّلاة هو كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «الفجر الأحمر– أي الذي يَشُوبُ بياضه حمرة- المُعْتَرِض في
الأفُق»([6])، الذي يملأ البيوت والطرقات ولا يختلف فيه أحدٌ من الناس، يشترك في معرفته جميعُ الناس، وأما غير ذلك،
كالفجر الذي يَعْنِيهِ المُوَقِّت المغربي فإنَّه باطِل، لا يحَرِّم طعامًا على الصَّائم ولا يحِلُّ صلاة الصبح،
ونحن نتأخر بعده أكثر من نصفِ ساعة حتى يتبين الفجرُ الصادق. فهذا الذي نَدِينُ الله به. والله يقول الحق وهو يهدي السبيل».
والخلاصة: أن الاعتماد على تقويم إسنا هو الأضبط، ولا نعلم أنهم رجعوا عن هذا التوقيت،
والأصل بقاء ما كان على ما كان حتى يثبتُ تغيرُه، ولم يثبت لدينا من ذلك شيءٌ، فمن صلى على هذا التقويم فصلاتُه صحيحة،
ولا يلزمه التأخيرُ، أما من صلى على غير ذلك فينبغي تأخير إقامة صلاة الفجر بنحوٍ من عشرين دقيقة إلى خمس وعشرين،
لإجماع العلماء على اشتراط دخولِ الوقت لصحة الصلاة، وأن من صلى قبل دخول الوقت فصلاته باطلة.
ويبقى أن مثل هذه المسائل ينبغي أن يأتمر فيها أهلُ العلم والفضل بينهم بمعروف، ليضربوا للأمة مثلًا في فقه الاختلاف،
وسعة الأفق، حتى لا يكون التديُّن أو العلم الشرعي في حِسِّ العامة مدخلًا إلى الشقاق والفتنة والتراشق بالتُّهَم والمناكر،
وسببًا من أسباب التدابر وفساد ذات البين.
فإن عجزنا عن الاتفاق فلا أقلَّ من أن نلتقي على كلمة سواء من الناحية العملية: فمن أذَّن على غير توقيت إسنا يؤخِّر إقامةَ
الصلاة إلى هذا القدر ليلتقي مع من ينازعونه في هذا التوقيت. ولا يضرُّ الأذنان قبل الميقات؛ لأن للفجر أذانين أحدهما قبل دخول
الوقت بطبيعة الحال.
ولمن يعتقد أن تقويم إسنا متأخر أن يحتاط لصومه فيُمسك على قبل ذلك، أي على التقويم الذي يعتقد صحته.
فنكون قد جمعنا بين الاحتياط للصوم والاحتياط للصلاة، وتجنبنا فسادَ ذات البين، «هِيَ الْـحَالِقَةُ؛ لَا أَقُولُ تَحْلِقُ الشَّعَرَ
وَلَكِنْ تَحْلِقُ الدِّينَ»([7]).
والله تعالى أعلى وأعلم.
___________________________
([1]) متفق عليه؛ أخرجه البخاري في كتاب «الأذان» باب «أذان الأعمى إذا كان له من يخبره» حديث (617)، ومسلم في كتاب «الصيام» باب «بيان أن الدخول في الصوم يحصل بطلوع الفجر» حديث (1092)، من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
([2]) أخرجه الحاكم في «مستدركه» (1/304) حديث (687)، والبيهقي في «الكبرى» (1/457) حديث (1990)، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. وقال الحاكم: «حديث صحيح على شرط الشيخين في عدالة الرواة ولم يخرجاه».
([3]) أخرجه الحاكم في «مستدركه» (1/304) حديث (688)، والبيهقي في «الكبرى» (1/377) حديث (1642) من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه، وذكره الألباني في «صحيح الجامع الصغير» (7727).
([4]) أخرجه أبو داود في كتاب «الصوم» باب «وقت السحور» حديث (2346)، والترمذي في كتاب «الصوم» باب «ما جاء بيان الفجر» حديث (706) من حديث سمرة بن جندب رضي الله عنه، وقال الترمذي: «حديث حسن ».
([6])أخرجه أبو داود في كتاب «الصوم» باب «وقت السحور» حديث (2348)، والترمذي في كتاب «الصوم» باب «ما جاء في بيان الفجر» حديث (705) من حديث طلق بن علي رضي الله عنه، وذكره الألباني في «السلسلة الصحيحة» (2031).
([7]) أخرجه أحمد في «مسنده» (6/ 444) حديث (27548)، وأبو داود في كتاب «الأدب» باب «في إصلاح ذات البين» حديث (4919)، والترمذي في كتاب «صفة القيامة والرقائق والورع» باب «ما جاء في صفة أواني الحوض» حديث (2509) من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه. وقال الترمذي: «هذا حديث صحيح».
يمكنكم الإطلاع على المزيد من فتاوى الصلاة الخاصة بفضيلة الشيخ الدكتور صلاح الصاوي
كما ويمكنكم متابعة كافة الدروس والمحاضرات والبرامج الخاصة بفضيلة الشيخ الدكتور صلاح الصاوي