نحن إخوانُك وأبناؤك في مؤسسة الدار بكندا، وفَّقنا الله لشراء حانة وحولناها إلى مسجد ومركز إسلامي في مدين أوكفل بأونتاريو، واتجاه المبنى ينحرف عن القبلة بـ 17 درجة، وهناك رأيان، إما أن نُبقِي الصفوف موازيةً للحائط ونعتمد على التوجه للقبلة، أو تنحرف الصفوف عن الحائط، فبماذا تنصح؟ بارك الله فيك.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه؛ أما بعد:
فإن استقبالَ القبلة شرط لصحة الصلاة؛ لقوله تعالى: ﴿فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ﴾ [البقرة: 144].
وفرضُ القريب من الكعبة أن يستقبِلَ عَيْنَها، فمن كان قريبًا من الكعبة يمكنه مشاهدتها ففرضه أن يستقبل عينَ الكعبة لأنها هي الأصل، وأما البعيدُ عنها ففرضه أن يستقبلَ جِهتَها، ولا يضرُّ الانحراف اليسير عند جمهور العلماء(1).
ومن الأدلة على ذلك قولُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم: «مَا بَيْنَ الْـمَشْرِقِ وَالْـمَغْرِبِ قِبْلَةٌ» (2).
وما رواه البخاري ومسلم من حديث أبي أيوب رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إِذَا أَتَيْتُمْ الْغَائِطَ فَلا تَسْتَقْبِلُوا الْقِبْلَةَ وَلا تَسْتَدْبِرُوهَا بِبَوْلٍ وَلا غَائِطٍ، وَلَكِنْ شَرِّقُوا أَوْ غَرِّبُوا»(3).
قال شيخ الإسلام رحمه الله في «شرح العمدة»: «هذا بيان لأن ما سوى التشريق والتغريب استقبالٌ للقبلة أو استدبارٌ لها، وهذا خطاب لأهل المدينة ومن كان على سمتهم؛ لأن ذلك إجماع الصحابة رضي الله عنهم؛ قال ابن عمر: ما بين المشرق والمغرب قبلة كله إلا عند البيت(4). وعن عثمان رضي الله عنه أنه قال: كيف يُخطئ الرجل الصلاة وما بين المشرق والمغرب قبلة، ما لم يتحرَّ المشرق عمدًا»(5).
أما الإمام الشافعي(6) رحمه الله فقد ذهب إلى أنه يجبُ إصابةُ عين الكعبة حتى على البعيد، وتبطل الصلاة عنده بمثل هذا الانحراف عن القبلة.
ومناطُ هذه الأقوال أنه حيثُ تعذَّر اليقين، والتوجه إلى عين القبلة فإنه يُصار إلى الجهة، لأن هذا هو المقدور عليه، ولا يكلف الله نفسًا إلا وُسعها، ولكن لا يجوز تعمُّد الانحراف عن القبلة وقد علمت جهتها بيقين من خلال الوسائل العلمية المتاحة، التي تضبط لك القبلة كأنك تراها رأي العين.
وعلى هذه فهذا الانحراف المذكور في السؤال لا يضرُّ في حق من جهل الأمر وتعذَّر عليه اليقين، أما إذا كان في وسعه أن يتحرَّ القبلةَ وإصابةُ عينها فلا يجوز له تقصُّد الانحراف عنها. والله تعالى أعلى وأعلم.
__________________________
(1)جاء في «حاشية ابن عابدين» من كتب الحنفية (1/430): «تفسد بتحويل صدره عن القبلة بغير عذر، فعلم أن الانحراف اليسير لا يضر».
وجاء في «شرح مختصر خليل» للخرشي من كتب المالكية (1/260): « المقلد أو المجتهد إذا تبين له الخطأ يقينا أو ظنا في استقباله في قبلة الاجتهاد والتقليد وهو في الصلاة فإن كان أعمى ولو كثر انحرافه أو بصيرا منحرفا يسيرا فإنهما يستقبلان القبلة ويبنيان على صلاتهما، أما البصير المنحرف كثيرا فإنه يقطع على المشهور ويبتدئ بإقامة كما في المدونة، وأما إن تبين الخطأ بعد الفراغ من الصلاة فإن كان غير أعمى أو منحرف يسيرا بأن كان بصيرا منحرفا كثيرا فإنه يعيد استحبابا ما دام الوقت. وأما الأعمى والبصير المنحرف يسيرا فلا يعيدان الصلاة المتبين لهما بعدها خطؤهما».وجاء في «شرح منتهى الإرادات» من كتب الحنابلة (1/171): «ويعفى عن انحراف يسير) يمنة ويسرة».
(2) أخرجه الترمذي في كتاب «الصلاة» باب «ما جاء أن ما بين المشرق والمغرب قبلة» حديث (342)، وابن ماجه في كتاب «إقامة الصلاة والسنة فيها» باب «القبلة» حديث (1011)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وذكره الألباني في «صحيح سنن الترمذي» (342).
(3) متفق عليه أخرجه البخاري في كتاب «الصلاة» باب «قبلة أهل المدينة وأهل الشأم والمشرق» حديث (394)، ومسلم في كتاب «الطهارة» باب «الاستطابة» حديث (264).
(4) أخرجه الفاكهي في «أخبار مكة» ص176.
(5) «شرح العمدة» (4/538- 539).
(6) جاء في «فتح العزيز بشرح الوجيز» (3/242): «المطلوب بالاجتهاد عين الكعبة أم جهتها وفيه قولان أظهرهما أن المطلوب عين الكعبة».وجاء في حاشيتي «قليوبي وعميرة» (1/152-153): «(ويحرم انحرافه عن طريقه ) لأنه بدل عن القبلة ( إلا إلى القبلة ) لأنها الأصل ، فإن انحرف إلى غيرها عامدا بطلت صلاته ، أو ناسيا وعاد عن قرب لم تبطل ، وإن طال بطلت في الأصح».