السؤال:
هل يمكن لأحد من الصالحين أن يرى الملائكة في اليقظة رؤية حقيقية؟
الجواب
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه؛ أما بعد:
فإن الملائكة مخلوقاتٌ نورانية لطيفة لا يتمكن أحدٌ من رؤيتهم في الدنيا على صُوَرِهم الحقيقية التي خلقهم الله عليها، ولهذا أنكر الله على الكافرين الذين تشوَّفُوا لرؤية الملائكة، فقال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا} [الفرقان: 21]. ثم قال تعالى في الرد عليهم: {يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ لَا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا} [الفرقان: 22]. ذلك أنَّ الكفار لا يرون الملائكة إلا حين الموت أو حينَ نزول العذاب، فلو قُدِّر أنّهم رأوا الملائكة لكان ذلك اليوم يومَ هلاكهم.
ولم يرَ الملائكةَ في صُوَرهم الحقيقية من هذه الأمَّة إلا رسولُ الله صلى الله عليه وسلَّم؛ فإنه رأى جبريل مرتين في صورته التي خلَقه الله عليها، هما المذكورتان في قوله تعالى: {وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ} [التكوير: 23]، وفي قوله: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى * عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى * عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى} [النجم: 13 – 15]، عندما عرج به إلى السموات العُلا.
وقد ورد في «صحيح مسلم»: أن عائشة رضي الله عنها سألت الرسول صلى الله عليه وسلم عن هاتين الآيتين فقال صلى الله عليه وسلم: «إِنَّمَا هُوَ جِبْرِيلُ لَـمْ أَرَهُ عَلَى صُورَتِهِ الَّتِي خُلِقَ عَلَيْهَا غَيْرَ هَاتَيْنِ الْـمَرَّتَيْنِ: رَأَيْتُهُ مُنْهَبِطًا مِنْ السَّمَاءِ سَادًّا عِظَمُ خَلْقِهِ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ»(1).
فالرسول صلى الله عليه وسلم مع كونه أفضلَ الخلق، وكونه على جانبٍ عظيم من القوة الجسميَّة والنفسيَّة عندما رأى جبريل على صورته- أصابَهُ هول عظيم، ورجع إلى منزله يرجف فؤاده.
أما إذا تمثَّلت الملائكةُ في صورةٍ بشريَّةٍ فيُمكن رؤيتهم، وقد كان هذا يقع للصحابة رضي الله عنهم، وقد وقع لمريم من قبلُ، ووقع لغيرها من صالحي المؤمنين، فقد رأى الصحابةُ جبريلَ في صورة دحية الكلبي(2)، وفي صورة رجل غيرِ معروف، كما في حديث جبريل الطويل، حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم، إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لا يُرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه منا أحد، حتى جلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأسند ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع كفيه على فخذيه، وقال: يا محمد، أخبرني عن الإسلام… وفي نهاية الحديث قال صلى الله عليه وسلم: «يَا عُمَرُ، أَتَدْرِي مَنِ السَّائِلُ؟» قلت: الله ورسوله أعلم. قال: «فَإِنَّهُ جِبْرِيلُ أَتَاكُمْ يُعَلِّمَكُمْ دِينَكُمْ»(3).
وكذلك تمثَّل جبريلُ لمريم بشرًا سويًّا، كما قال تعالى: {فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا} [مريم: 17].
وكذلك تمثَّلت الملائكةُ لإبراهيم ولوطٍ عليهما السلام في قصة ضيفِ إبراهيم، كما قال تعالى: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ * إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ * فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ * فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ * فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ * فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ * قَالُوا كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ } [الذاريات: 24 – 30].
وكما قال تعالى: {وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ} [هود: 77]. والله تعالى أعلى وأعلم.
__________________
(1) أخرجه مسلم في كتاب «الإيمان» باب «معنى قول الله عز وجل: {ولقد رآه نزلة أخرى}» حديث (177).
(2) ففي الحديث المتفق عليه؛ الذي أخرجه البخاري في كتاب «المناقب» باب «علامات النبوة في الإسلام» حديث (3634)، ومسلم في كتاب «فضائل الصحابة» باب «من فضائل أم سلمة أم المؤمنين رضي الله عنها» حديث (2451)، من حديث سلمان الفارسي رضي الله عنه قال: وأنبئت أن جبريل عليه السلام أتى نبي الله صلى الله عليه وسلم وعنده أم سلمة… فجعل يتحدَّث ثم قام فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم لأم سلمة: «من هذا؟»- أو كما قال- قالت: هذا دحية. قال: فقالت أم سلمة: أيم الله ما حسبته إلا إياه حتى سمعت خطبة نبي الله صلى الله عليه وسلم يُخبر خبرنا.
(3) أخرجه مسلم في كتاب «الإيمان» باب «معرفة الإيمان» حديث (8).