مناقشات وتعقيبات حول الثوابت والمتغيرات (2)
لقد ذكرتم في كتابكم عن تقسيم التوحيد إلى ثلاثة أقسام: «لم يرد به فيما نعلم آية محكمة أو سنة متبعة».
فهل ذلك يعني أنكم تعتقدون أن أصل الدين لم يبين، بل تُرك للاجتهاد؟ ثم أليس ذلك يخالف كلام أئمة الدعوة من أمثال الإمام محمد بن عبد الوهاب وغيره، والشيخ عبد الله بن حميد في رسالة التوحيد التي ذكر فيها: «التوحيد ثلاثة أقسام بالكتاب والسنة والإجماع».
الإجابة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:
فإن الحديث عن مضمون التوحيد شيء، والحديث عن تقاسيم اصطلاحية في دارسة التوحيد وتعليمه شيء آخر، والمعركة التي يجب أن تحشد لها الحشود هي تجريد مضمون عقيدة التوحيد مما علق بها من شوائب الشرك والبدعة، فهذا المضمون هو الذي يطلق عليه أنه من أصول الدين، وهو الذي لا يدخل شيء منه في موارد الاجتهاد، فهو محكم ما بقيت السماوات والأرض، وكاتب هذه السطور يعتقد ما يعتقده أهل السنة قاطبة من الإقرار بتوحيد الله تعالى بأفعاله؛ خلقًا وملكًا ورزقًا وتدبيرًا وهدايةً وتشريعًا… إلخ، والإقرار بتوحيده تعالى بأفعال العباد؛ رغبًا ورهبًا ودعاًء واستغاثةً وصلاةً ونسكًا وذبحًا ونذرًا وانقيادًا مطلقًا… إلخ، والإقرار بأسمائه الحسنى وصفاته العلا؛ إثباتًا بلا تمثيل، وتنـزيهًا بلا تعطيل، والإيمان بأن التوحيد أول واجب على المكلفين، وأول ما يدعى إليه الناس من أمور الدين، وأنه شرط لصحة سائر العبادات وقبولها، وأن الكفر والشرك محبط لجميع الطاعات، وأن توحيد الربوبية هو المدخل إلى توحيد الألوهية، وأن الإيمان بالربوبية مما أقر به عامة بني آدم، وأن قضية الرسل ومعركتهم مع أقوامهم دارت حول توحيد الألوهية، فهو الذي انقسم الناس عنده إلى موحدين ومشركين…إلخ، فإذا تحرر المضمون على هذا النحو، فقد هان ما وراءه من تعدد الاجتهادات المتعلقة بالتقاسيم الاصطلاحية.
ومن ناحية أخرى فإن من أهل العلم -كما تعلم- من جعل التوحيد قسمين: توحيدًا علميًّا خبريًّا؛ وهو عنده يشمل توحيد الربوبية وتوحيد الأسماء والصفات، وتوحيدًا علميًّا طلبيًّا؛ وهو توحيد الألوهية، فجمع بين توحيد الربوبية وتوحيد الأسماء والصفات وجعلهما قسمًا واحدًا، ولا حرج في ذلك ولا غضاضة، وعندما تحدث أهل العلم من المعاصرين عن شرك العلمانية والحكم بغير ما أنزل الله منهم من أدخله في باب توحيد الربوبية: ﴿ألا له الخلق والأمر﴾.
ومنهم من أدخله في باب توحيد الألوهية؛ لقيام هذا التوحيد على ركنين؛ كمال التأله والتنسك، وكمال الطاعة والانقياد؛ والعلمانية إخلال بهذا الأخير، ومنهم من ألحقه بباب الأسماء والصفات باعتباره إخلالًا وإشراكًا باسمه تعالى: «الحَكَم»، ولكلٍّ فيما ذهب إليه وجه ووجاهة، وقد يمكن الجمع بين ذلك كله فيقال: «إن العلمانية إخلال بالتوحيد في أقسامه الثلاثة: ربوبية، وألوهية، وأسماء وصفات».
وقد تشيع موجات إلحادية في بعض جوانب التوحيد في بعض المناطق، فيفردها أهل العلم بالذكر، ويعنونون لها العناوين الخاصة، كما لو قيل: «توحيد الخالقية»في منطقة شاع فيها الإلحاد، أو القول بنظرية الخلق الذاتي، أو النشوء والارتقاء ونحوه، والقصد في ذلك التعليم والتوضيح ولفت الانتباه، إن هذا هو النسق الذي سيقت فيه هذه الكلمات، وأحسب أن الخطب في ذلك هين ويسير.
كما أحسب أن جلَّ تقاسيم العلوم اصطلاحية، وليس فيها ما يقال عنه: إنه جزء من أصل الدين، وإن الإخلال به إخلال بأصل الدين!
إنني أود ألَّا يخلط القارئ بين القول بأن هذا التقسيم تقسيم اصطلاحي على النحو الوارد في كتاب «الثوابت والمتغيرات»، وبين انتهاج بعض الإسلاميين طريقًا آخر في تقسيم التوحيد يترك آثاره على المضمون، أو يشوش عليه في أدنى تقدير، إن من يقولون مثلًا: إن التوحيد أن تعتقد أن الله واحد في ذاته لا قسيم له، وواحد في صفاته لا مثيل له، وواحد في أفعاله لا نظير له، ويقولون في تعريفهم للإله: إنه القادر على الاختراع- يكادون يحصرون التوحيد في الجانب العلمي الخبري الاعتقادي وحده، ولا تكاد تعثر في عباراتهم على أثر ظاهر لتوحيد العبادة؛ أي: للنوع الآخر من التوحيد، وهو التوحيد العملي الطلبي، ومن أجل هذا توسعوا في كثير من القضايا الماسَّة بأصل الدين، وأحالوا الأمر في تكييفها والحكم عليها إلى جانب الاعتقاد فحسب، فإن رأوا خرافيًّا يدعو غير الله قالوا: العبرة باعتقاده؛ فما دام يعتقد أن الله هو الخالق، أو أنه وحده له الخلق والأمر فقد تجاوز القنطرة في باب التوحيد، ومثل ذلك في جل صور العبادة التي تصرف لغير الله في واقعنا المعاصر.
إن القضية في مثل هذا تتجاوز حدود الخلاف المقبول حول تقسيم اصطلاحي لا مساس له بالمضمون، يعتبره هذا محكمًا ويعتبره الآخر اجتهاديًّا، إنها تتجاوز هذا إلى طرح جديد قد يشوش على حقائق التوحيد في ذاتها، ويفتح الباب واسعًا إلى التغافر مع صور كثيرة من الأقوال والأعمال الشركية؛ بدعوى سلامة اعتقاد من تلبسوا بها، وأن المعول عليه في باب التوحيد هو الاعتقاد فحسب، ولعل هذا هو وجه التوجس عند من تحفظوا على ما جاء في كتاب «الثوابت والمتغيرات»من اعتبار هذا التقسيم تقسيمًا اصطلاحيًّا، فلعل أعينهم كانت على مثل هذا المآل، فإذا أُمن هذا المحذور، وأُحكم القول في مضمون التوحيد وحقائقه فقد هان الأمر، ولم يصبح الحديث حوله بهذه الحساسية المفرطة.
ومن ناحية أخرى؛ فقد أكدت الدراسة على أن هذا التقسيم قد استقر قرونًا طويلة، وأنه ينبغي اعتماده، على ألا يجعل وحده من معاقد الولاء والبراء، فقد جاء في نهاية الفقرة المشار إليها: «هذا؛ وإن كان تتابع أهل العلم على استخدام هذا التقسيم واستقراره عبر قرون طويلة؛ يجعله جزءًا من التراث السلفي، فينبغي قبوله على ألا يكون في ذاته معقد ولاء وبراء».
ولكاتب هذه السطور كتب أخرى شرح فيها مضمون التوحيد، وقد جرى فيها جميعًا على هذا التقسيم، ولم يتجاوزه في قليل ولا كثير؛ فهل ترى أن القضية على هذا النحو وفي هذا الإطار تستحق كل هذا الضجيج والجلبة؟!