فضيلة الدكتور صلاح، هل يمكن أن تكتب لنا كلمة حول رأيكم في التجمعات التي يعقدها المسلمون في يوم الشكر وهو آخر يوم خميس من شهر نوفمبر من كل عام؟
هناك عدة فرق من الناس:
1- من يجتمع ويأتي بالرومي.
2- من يجتمع بدون الرومي، وذلك بحجة أنه يوم عطلة، مع العلم بأن هذه العطلة تتكون من عدة أيام ويمكن أن يتم التجمع في أي يوم آخر، ومنهم المتدين ومنهم العامي.
غالبية الناس تقول: إنها مناسبة ليست بدينية، مع العلم بأنني قد دخلت على الإنترنت لأرى ماذا يقال فوجدت أن هناك الكثير من المواقع الدينية المسيحية تعتبرها يومًا دينيًّا، ويقول بعضهم: إنها ترجع لأيام عبور موسى البحر الأحمر مع بني إسرائيل، واستمرت بعدها أيضًا. ويستدلون بفقرات في الإنجيل والتوراة.
كل تلك المواقع أيضًا تذكر أنه أصبح يومًا رسميًّا منذ أن أتى مهاجرو أمريكا إلى أمريكا في عام 1621م عندما كانوا يعانون من فقدان الطعام ثم جاءهم الطعام من حيث لا يتوقعون فقاموا بالصلاة والدعاء في ذلك اليوم ثم في كل عام، ثم توقف الأمر وعاد مرة أخرى بعد الانتصار على البريطانيين في عام 1777م، ثم أصبح يومًا عامًّا في العهد القريب، وخصص له دعاءٌ معين لابد من ذكره قبل الطعام.
أيضًا هل يجوز لإنسان متدين أن يحضر مثل هذه التجمعات لو وضع على موائد الطعام أطعمة غير الرومي، وذلك لكي لا يغضب منه أحد، أم أنه من الأفضل أن تتم توعية الناس حتى يبتعدوا عنها؟
الجواب:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:
فالعيد: اسم لما يعود من الاجتماع العام على وجه معتاد، وقد يكون سنويًّا أو شهريًّا أو أسبوعيًّا ونحوه.
والأصل في الأعياد أنها من جملة الشرع والمناسك، كالقبلة والصلاة والصيام ونحوه، وقد جعل الله لكل أمة شرعة ومنهاجًا، قال تعالى: ﴿لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ فَلَا يُنَازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ﴾ [الحج: 67].
وقال تعالى: ﴿لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا﴾ [المائدة: 48]. وقال تعالى: ﴿ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [الجاثية: 18]
واختص الله عز وجل هذه الأمة بيومي الفطر والأضحى على مستوى العام، وبيوم الجمعة على مستوى الأسبوع، وعلى المسلم أن ينتهي إلى ما علم، وأن يقف حيث أوقفه الله ورسوله، ومن الأدلة على ذلك:
قول الله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا﴾ [الفرقان: 72]، وقد تأولها غير واحد من التابعين على أن الزور الوارد في الآية يراد به أعياد المشركين، فقد روي هذا عن مجاهد ومحمد بن سيرين والربيع بن أنس والضحاك وغيرهم، وتأويل الآية على أن المراد بها شهادة الزور التي هي الكذب فيه نظر، فإن الله جل وعلا قال: ﴿لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ﴾ [الفرقان: 72] ولم يقل: لا يشهدون بالزور، والعرب تقول: شهدت كذا إذا حضرته، كقول ابن عباس: شهدت العيد مع رسول الله ﷺ، وأما شهدت بكذا، فمعناه أخبرت به.
• ما جاء في «صحيح مسلم» عن عائشة قالت: دخل علي أبو بكر وعندي جاريتان من جواري الأنصار تغنيان بما تقاولت به الأنصار يوم بعاث. قالت: وليستا بمغنيتين، فقال أبو بكر: أبمزمور الشيطان في بيت رسول الله ﷺ؟ وذلك يوم عيد، فقال رسول الله ﷺ: «يَا أَبَا بَكْرٍ، إِنَّ لِكُلِّ قَوْمٍ عِيدًا، وَهَذَا عِيدُنَا»(1).
ودلالة الحديث على المنع ظاهرة؛ فقوله ﷺ: «إِنَّ لِكُلِّ قَوْمٍ عِيدًا وَهَذَا عِيدُنَا» يوجب اختصاص كل قوم بعيدهم، كما أن قوله تعالى: ﴿وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا﴾ [البقرة: 148] وقوله: ﴿لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا﴾ [المائدة: 48] يوجب اختصاص كل قوم بوجهتهم وبشرعتهم، فإذا كان لغير المسلمين عيد كانوا مختصين به فلا نشاركهم فيه، كما لا نشاركهم في قبلتهم وشرعتهم.
هذا بالإضافة إلى قوله ﷺ: «وَهَذَا عِيدُنَا» فإنه يقتضي حصر عيدنا في هذا، فليس لنا عيد سواه.
• وما رواه أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قدم رسول الله ﷺ المدينة ولهم يومان يلعبون فيهما، فقال: «مَا هَذَانِ اليَوْمَانِ؟». قالوا: كنا نلعب فيهما في الجاهلية. فقال رسول الله ﷺ: «إِنَّ اللهَ قَدْ أَبْدَلَكُمْ بِهِمَا خَيْرًا مِنْهُمَا: يَوْمَ الأَضْحَى وَيَوْمَ الفِطْرِ»(2).
ووجه الدلالة أن اليومين الجاهليين لم يقرهما رسول الله ﷺ، ولا تركهم يلعبون فيهما على العادة، بل قال: «إِنَّ اللهَ قَدْ أَبْدَلَكُمْ بِهِمَا خَيْرًا مِنْهُمَا»، وهذا يقتضي ترك المبدل منه؛ إذ لا يجمع بين البدل والمبدل منه.
• وما رواه أبو داود عن ثابت بن الضحاك رضي الله عنه قال: نذر رجل على عهد رسول الله ﷺ أن ينحر إبلًا ببوانة، فأتى النبي ﷺ فقال: إني نذرت أن أنحر إبلًا ببوانة. فقال النبي ﷺ: «هَلْ كَانَ فِيهَا وَثَنٌ مِنْ أَوْثَانِ الجَاهِلِيَّةِ يُعْبَدُ؟» قالوا: لا. قال: «فَهَلْ كَانَ فِيهَا عِيدٌ مِنْ أَعْيَادِهِمِ؟». قالوا: لا. فقال النبي ﷺ: «أَوْفِ بِنَذْرِكَ؛ فَإِنَّهُ لَا وَفَاءَ لِنَذْرٍ فِي مَعْصِيَةِ الله وَلَا فِيمَا لَا يَمْلِكُ ابْنُ آدَمَ»(3).
وبوانة اسم مكان قرب ينبع، شمال مكة.
وهذا يدل على أن الذبح بمكان عيدهم ومحل أوثانهم معصية لله، وإذا كان الذبح بمكان عيدهم منهيًّا عنه فكيف الموافقة في نفس العيد بفعل بعض الأعمال التي تعمل بسبب عيدهم؟!
• وما رواه أبو هريرة رضي الله عنه أنه سمع رسول الله ﷺ يقول: «نَحْنُ الآخِرُونَ السَّابِقُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، بَيْدَ أَنَّهُمْ أُوتُوا الكِتَابَ مِنْ قَبْلِنَا وَأُوتِينَاهُ مِنْ بَعْدِهِمْ، فَهَذَا يَوْمُهُمُ الَّذِي فَرَضَ اللهُ عَلَيْهِمْ فَاخْتَلَفُوا فِيهِ، فَهَدَانَا اللهُ لَهُ، فَالنَّاسُ لَنَا فِيهِ تَبَعٌ، الْيَهُودُ غَدًا وَالنَّصَارَى بَعْدَ غَدٍ»». متفق عليه(4).
وقد سمى النبي ﷺ الجمعة عيدًا في غير موضع، ونهى عن إفراده بالصوم؛ لما فيه من معنى العيد، وفي هذا الحديث ذكر أن الجمعة لنا، كما أن السبت لليهود والأحد للنصارى، فإذا نحن شاركناهم في عيدهم يوم السبت، أو عيد اليهود يوم الأحد خالفنا هذا الحديث.
وإذا كان هذا في العيد الأسبوعي، فكذلك في العيد الحولي؛ إذ لا فرق، بل إذا كان هذا في عيد يعرف بالحساب العربي فكيف بأعياد الكافرين العجمية التي لا تعرف إلا بالحساب القبطي أو الفارسي أو العبري ونحو ذلك.
وهذا نهي شديد عن أن يفعل شيء من أعياد الجاهلية على أي وجه كان.
• ومن دلالة التاريخ التي تفيد الإجماع أن اليهود والنصارى والمجوس ما زالوا في أمصار المسلمين، فقد كان اليهود باليمن، والنصارى بنجران، والفرس بالبحرين، ثم لم يكن على عهد السلف من المسلمين من يشركهم في شيء من أعيادهم، فلولا قيام المانع في نفوس الأمة كراهة ونهيًا من ذلك لما تلقوه عن نبيهم من المنع من ذلك والكف عنه لوقع ذلك كثيرًا؛ ولو وقع لنقل، فلما لم ينقل علم أنه منهي عنه لا محالة.
• ومن ناحية أخرى فلا يخفى أن المشابهة في الظاهر تورث نوع مودة ومحبة وموالاة في الباطن، كما أن المحبة في الباطن تورث المشابهة في الظاهر، وهذا أمر يشهد به الحس والتجربة؛ فإذا كانت المشابهة في أمور دنيوية تورث المحبة والموالاة، فكيف بالمشابهة في أمور دينية؟! فإن إفضاءها إلى نوع من الموالاة أكثر وأشد، والمحبة والموالاة لهم تنافي الإيمان، ونصوص الوحيين في ذلك كثيرة ومستفيضة.
قال تعالى: ﴿لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً﴾ [عمران: 28].
• وأخيرًا فلابد أن نشير إلى تفاوت ما يفعله غير المسلمين في أعيادهم، فمنه ما هو كفر ومنه ما هو حرام، ومنه ما هو مباح لو تجرد عن مفسدة المشابهة، والتمييز بين هذا وذاك مما قد يعسر على كثير من العوام، فالمشابهة فيما لم يظهر تحريمه لأهل العلم قد يوقع العامة في مشابهتهم فيما هو حرام، فأولى تجنب هذه الموافقة بالكلية، وإن كانت بعض مفرداتها مباحة باعتبار الأصل إذا خلت عن نية المشابهة، وذلك منعًا للتلبيس والإيهام.
• بقي بعد هذا الحديث العام أن ننظر إلى الصور المذكورة في هذه النازلة:
فمن يدعو إلى الاجتماع في هذا اليوم ويأتي بنفس الطعام ويباشر نفس المناسك فهو أدخل في باب المشابهة من غيره، وإليه يتجه الحديث ابتداء، وعليه أن يتوب إلى الله عز وجل وأن يقلع عن هذه المشابهة، وقد قال ﷺ: «مَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ»(5).
وفي البيهقي عن عمر رضي الله عنه : لا تعلموا رَطَانَةَ الأعاجم، ولا تدخلوا على المشركين في كنائسهم يوم عيدهم، فإنَّ السخطة تنزل عليهم(6).
وروي عنه أيضًا أنه قال: اجتنبوا أعداءَ الله في عيدهم(7).
وروي عن ابن عمر أنه قال: من بنى ببلاد الأعاجم فصنع نيروزهم ومهرجانهم وتشبه بهم حتى يموت وهو كذلك حُشِرَ معهم يوم القيامة(8).
وهو يقتضي تحريم التشبه بهم مطلقًا، وكذلك قوله ﷺ: «خَالِفُوا المُشْرِكِينَ»(9)، وأعيادهم من جنس أعمالهم التي هي دينهم أو شعار دينهم الباطل.
فإذا كان النبي ﷺ قد نص على بدعية ما أحدثه المسلمون في دينهم في مثل قوله ﷺ: «وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ؛ فَإِنَّ شَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ»(10). فكيف بما أحدثه الكفار مما لم يشرعه نبي قط؟!
وإذا كان ذلك كذلك فإن من دعا إلى الاجتماع على مثل طعام القوم في مثل هذا اليوم قاصدًا التشبُّه بهم فقد عمل زورًا وغشى محظورًا، أما من دعا أسرته ورحمه إلى الاجتماع في هذا اليوم لمجرد الاستفادة من كونه يوم عطلة رسمية يستمتع فيها الموظفون بإجازات تمكنهم من التزاور مع أرحامهم والتواصل مع أقاربهم، ولم تتجه نيته إلى شي من ذلك- فلا حرج، لأن القاعدة فيما لم يرد نصٌّ في النهي عنه لذاته من أمور العادات: أنه لا تشبُّه إلا بنية، ويحسن في هذه الحالة القصد إلى شيء من المخالفة في الطعام والهيئة توقيًا لمحظور المشابهة.
• ومن يدعو إلى الاجتماع ويخالف القوم فيما يقدم من أطعمة ونحوه بحجة أنه يوم عطلة فإننا نقول له: لا ينفك فعلك هذا عن قدر من المشابهة، والعطلة تتكون من جملة أيام، ويمكنك نقل هذا الاجتماع إلى يوم آخر، فإن الله لم يضيق عليك فاختر من أيام الإجازة يومًا آخر لتكون أبعد عن المشابهة حتى لا يقع التلبيس على العوام الذين لا يفرق أغلبهم بين نية ونية، وقد يتدرجون من المشروع إلى الممنوع، اللهم إلا إذا تعين هذا اليوم باعتبار ظروف بعض المسافرين أو ظروف ذويهم ولم يتسن نقل هذا الاجتماع إلى يوم آخر بسبب ذلك مع التأكيد على نفي نية المشابهة.
• هذا وينبغي على أهل الدين ومن ينقل عنهم العلم خاصة تجنب هذه المناسبات بالكلية، وأن يستفيض البلاغ من خلالهم بالتأكيد على أهمية اجتنابها، وألا يترخصوا في شيء من ذلك بدعوى التألف ونحوه؛ فإن مفسدة التلبيس في ذلك أعظم من كل مصلحة متوقعة.
ولا حرج في شراء الرومي في هذه المناسبة لشيوعه وانخفاض أسعاره ثم يدخر لينتفع به في وقت آخر بعيدًا عن هذه المناسبة. والله تعالى أعلى وأعلم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أخرجه مسلم في كتاب «صلاة العيدين» باب «الرخصة في اللعب الذي لا معصية فيه في أيام العيد» حديث (892).
(2) سبق تخريجه.
(3) أخرجه أبو داود في كتاب «الأيمان والنذور» باب «ما يؤمر به من الوفاء بالنذر» حديث (3313)، وذكره ابن الملقن في «خلاصة البدر المنير» (2/422) وقال: «رواه أبو داود بإسناد صحيح على شرط الشيخين من رواية ثابت بن الضحاك». وابن حجر في «تلخيص الحبير» (4/180) وصحح إسناده.
(4) متفق عليه أخرجه البخاري في كتاب «الجمعة» باب «فرض الجمعة» حديث (876)، ومسلم في كتاب «الجمعة» باب «هداية هذه الأمة ليوم الجمعة» حديث (855).
(5) سبق تخريجه 4031.
(6) أخرجه البيهقي في «الكبرى» (9/234) حديث (18640).
(7) أخرجه البيهقي في «الكبرى» (9/234) حديث (18641).
(8) أخرجه البيهقي في «الكبرى» (9/234) حديث (18642).
(9) متفق عليه أخرجه البخاري في كتاب «اللباس» باب «تقليم الأظفار» حديث (5892)، ومسلم في كتاب «الطهارة» باب «خصال الفطرة» حديث (259) من حديث ابن عمر ب.
(10) أخرجه أحمد في «مسنده» (4/126) حديث (17184)، وأبو داود في كتاب «السنة» باب «في لزوم السنة» حديث (4607)، والدارمي في مقدمة «سننه» باب «اتباع السنة» حديث (95) من حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه ، وصححه الألباني في «صحيح وضعيف الترغيب والترهيب» حديث (37).