هل يعتبر رأي القرضاوي في جواز سماع الموسيقى رأيًا شاذًّا عند علماء السلف (مع استثناء ابن حزم)؟ وذكر من أباح ذلك من السلف إن وجد؟ وهل يجوز للمسلم أن يعمل بهذا الرأي؟
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:
بعد الاتفاق على تحريم ما اقترن بحرام أو اتخذ وسيلة إلى الحرام، أو أوقع في الحرام من المعازف والملاهي نقول:
المعازف- وهي آلات اللهو- موضع جدال عريض بين أهل العلم؛ نظرًا لأن جُلَّ ما ورد في تحريمها من النصوص لا يخلو من مقالٍ، وما صح منها ليس صريحًا في تحريمها، فالقول بانعقاد الإجماع على منعها أو إجازتها مجازفة، بل الناس فيها ما بين مجيز ومانع ومفصل. وقبل أن أخوض في الإشارة إلى هذا التفصيل لابد من التأكيد على ما سبقت الإشارة إليه واستهلال الحديث به، وهو أن هذا الخلاف لا يدخل فيه ما يجري في واقعنا المعاصر من حفلات الغناء الماجنة التي يختلط فيها الرجال بالنساء وتنتهك فيها المحرمات، فتقترن بالحرام، وتكون ذريعة له، فهذا الذي لا يشك عاقل في تحريمه، وهو ليس داخلًا معنا هنا في محل النزاع.
ففي «المغني» لابن قدامة تفصيل في الملاهي وبيان لما ذهب إليه من أنها على ثلاثة أضرب:
محرم، وهو ضرب الأوتار والنايات والمزامير كلها والعود والطنبور والمعزفة والرباب ونحوها، فمن أدام استماعها ردت شهادته.
وضرب مباح وهو الدُّفُّ؛ فإن النبي ﷺ قال: «أَعْلِنُوا النِّكَاحَ وَاضْرِبُوا عَلَيْهِ بِالدُّفِّ»(1). وذكر أصحابنا وأصحاب الشافعي أنه مكروه في غير النكاح، وهو مكروه للرجال على كل حال. وأما الضرب بالقضيب فمكروه إذا انضم إليه محرم أو مكروه كالتصفيق والغناء والرقص، وإن خلا عن ذلك لم يكره لأنه ليس آلة طرب ولا يطرب ولا يسمع منفردًا، بخلاف الملاهي ومذهب الشافعي في هذا كمذهبنا(2).
قلت: وتخصيص النكاح لا وجه له، لما صح من أن جارية سوداء جاءت إلى النبي ﷺ فقالت: يا رسول الله، إني كنت نذرت إن ردك الله صالحًا أن أضرب بين يديك بالدف وأتغنى، قال لها: «إِنْ كُنْتِ نَذَرْتِ فَاضْرِبِي وَإِلَّا فَلَا». فَجَعَلَتْ تَضْرِبُ، فَدَخَلَ أَبُو بَكْرٍ وَهِيَ تَضْرِبُ، ثُمَّ دَخَلَ عَلِيٌّ وَهِيَ تَضْرِبُ، ثُمّ دَخَلَ عُمَرُ فَأَلْقَتِ الدُّفَّ تَحْتَ اسْتِهَا، ثُمَّ قَعَدَتْ عَلَيْهِ، فَقَالَ رَسُولُ الله ﷺ: «إِنَّ الشَّيْطَانَ لَيَخَافُ مِنْكَ يَا عُمَرُ»(3).
وفي «بدائع الصنائع» للكاساني تفصيل يُفرِّق فيه بين ما يحل منها وما يحرم: فقد جاء في معرض حديثه فيمن تقبل شهادته ومن لا تقبل: «وأمَّا الذي يضرب شيئًا من الملاهي، فإنه ينظر إن لم يكن مستشنعًا كالقضيب والدف ونحوه فلا بأس، وإن كان مستشنعًا كالعود ونحوه سقطت عدالته لأنه لا يحل بوجه من الوجوه»(4).
وقد جاء قريب من هذا القول في حاشية ابن عابدين(5).
ومما نقل عنه الإباحة الغزالي في «الإحياء» وعبد الغني النابلسي أحد فقهاء القرن الحادي عشر وله في ذلك رسالة: «إيضاح الدلالات في سماع الآلات»، وقد قرر فيها أن الأحاديث التي استدل بها القائلون بالتحريم على فرض صحتها مقيدة بذكر الملاهي، وبذكر الخمر والقينات والفسوق والفجور، ولا يكاد يخلو حديث من ذلك، ثم قرر أن سماع الأصوات والآلات المطربة إذا اقترن بشيء من المحرمات أو اتخذ وسيلة للمحرمات أو أوقع في المحرمات كان حرامًا، وأنه إذا سلم من كل ذلك كان مباحًا في حضوره وسماعه وتعلمه.
وبالمناسبة، فإن أكثر الناس توسعًا في هذا الباب هم المتصوفة؛ فإنهم يتجاوزون به حدود الترويح عن النفس إلى اتخاذه قربة من القربات- إن حَسُنَتْ فيه النية باعتبار ما يُثيره في النفس من مشاعرِ الوجد، وما يوقظ فيها من أحاسيس الهُيام التي يقولون: إنهم يتوجهون به نحو الله ورسوله! على حد قول القائل: «كُلٌّ يُغَنِّي عَلَى لَيْلَاهُ».
وقد فصَّل الشوكاني : القول في هذه المسألة في كتابه «نَيْلِ الأوطار» في المجلد الثامن باب ما جاء في آلة اللهو، وعرض أدلة المانعين والمجيزين، وأبطل دعوى الإجماع على تحريم مطلق السماع، وانتهى إلى القول بأنها من المتشابهات التي ينبغي أن يتركها من أراد أن يستبرئ لدينه وعرضه. يقول : بعد عرضٍ مسهبٍ ومفصل لآراء المانعين والمجيزين:
«وإذا تقرر جميع ما حررناه من حجج الفريقين فلا يخفى على الناظر أن محل النزاع إذا خرج عن دائرة الحرام لم يخرج عن دائرة الاشتباه، والمؤمنون وقَّافون عند الشبهات كما صرح به الحديث الصحيح: «وَمَنْ تَرَكَهَا فَقَدِ اسْتَبْرَأَ لِعِرْضِهِ وَدِينِهِ وَمَنْ حَامَ حَوْلَ الْـحِمَى يُوشِكُ أَنْ يَقَعَ فِيهِ»(6)، ولاسيما إذا كان مشتملًا على ذكر القدود والخدود والجمال والدلال والهجر والوصال ومعاقرة العقار وخلع العذار والوقار؛ فإن سامع ما كان كذلك لا يخلو عن بَلِيَّةٍ، وإن كان من التصلب في ذات الله على حد يقصر عنه الوصف! وكم لهذه الوسيلة الشيطانية من قتيل دمه مطلول وأسير بهموم غرامه وهيامه مكبول، نسأل الله السداد والثبات، ومن أراد الاستيفاء للبحث في هذه المسألة فعليه بالرسالة التي سميتها: «إبطال دعوى الإجماع على تحريم مطلق السماع»(7).
وممن فصل القول كذلك في هذه المسألة شيخ الأزهر السابق الشيخ جاد الحق في كتابه «بحوث وفتاوى إسلامية في قضايا معاصرة» في المجلد الخامس ص 407 وما بعدها، والذي انتهى إليه الشوكاني هو الذي تميل إليه النفس في هذه المسألة. والله تعالى أعلى وأعلم.
ثم يبقى بعد هذا الحديث عن مدى جواز التقليد في الآراء الضعيفة أو الشاذة فنقول: إن المستفتي لا يخلو حاله من أن يكون عاميًّا أو طالب علم:
فإن كان عاميًّا ففرضه أن يسأل أهل الذكر، لقوله تعالى: { فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43]
فعلى من نزلت به نازلة من العوامِّ أن يرفعها إلى من يثق في دينه وعلمه من أهل الفتوى، وإن اختلفت عليه فتاوى المجتهدين أخذ بفتوى الأعلم والأورع، ويعرف ذلك بالشيوع والاستفاضة، وهنا مجال لعذر بعض العامة إن وثقوا بأحد المنتسبين إلى العلم، فقلدوه في بعض زلاته واجتهاداته الضعيفة أو الشاذة، فكما عذر العالم بخطئه وأثيب على اجتهاده وإن لم يصب فيه الحق، فإن العاميَّ يثاب كذلك على سؤاله لمن وثق في دينه وعلمه، ويعذر بعدم علمه بخطأ إمامه، أما إن كان العاميُّ صاحب هوى، وقد علم الله من قبله أنه لم يتجرد لطلب الحق، وإنما بحث عمن يفتيه بما يهوى ويشتهي فهو آثمٌ بذلك ولا يرتفع عنه هذا الإثم بتقليده هذا الإمام أو ذاك.
أما إن كان المستفتي طالبَ علم، فإنه متعبد بطلب الدليل والمقارنة بين الآراء عند الاختلاف، وطلب الترجيح من أهل الفتوى، أو بذل الوُسع في الترجيح بينها بما يبلغه جهده وطاقته، ثم العمل بما انتهى إليه سعيُه في نهاية المطاف، ولا تثريبَ عليه إن أخطأ ما دام قد استفرغ وُسعه وبذل جهده وطاقته، فإنه قد اجتهد الاجتهاد الذي يتسنى لمثله، والمجتهد معذور على كل حال: أخطأ أم أصاب. ولا يخفى أن أهل السنة لا يقرنون بين الخطأ وبين الإثم، فليس كل من اجتهد فأخطأ كان آثمًا، بخلاف أهل البدع الذين يأثمون بل ويفسقون ويكفرون، ولهذا ارتبط تاريخهم بالصراعات والانقسامات، فلم تأتلف لهم كلمة، ولم ينتظم لهم شمل، بل كانوا في تشرذمٍ دائم، وفي تهارج مستمر، والله تعالى أعلى وأعلم.
وعلى هذا فالذين أطلقوا القول بإباحة المعازف والملاهي هم عندنا مخطئون؛ لأن نظرنا قد انتهى إلى أنها من المتشابهات التي ينبغي تجنبها، ولكننا لا نؤثمهم بالضرورة؛ لأنه لا اقتران بين الخطأ والإثم، وما ورد من تشنيع على بعض أصحاب الزلات في كتب أهل العلم فهو تشنيع على التقصير في الاجتهاد، وليس على مجرد الخطأ أو الزلل في ذاته.
والذين يقلدونهم على ذلك هم عندنا مخطئون كذلك؛ لأنهم قلَّدوا في أمر لا نعتقد بصوابه، ولكننا مرة أخرى نقول: إنهم ليسوا آثمين إن كان هذا هو مبلغهم من العلم، وقد علم الله منهم تجردَهم لطلب الحق، ورغبتَهم في الاحتكام إلى الشرع، والوقوف عند حدود الله عز و جل . والله تعالى أعلى وأعلم.
_________________
(1) أخرجه الترمذي في كتاب «النكاح» باب «ما جاء في إعلان النكاح» حديث (1089)، وابن ماجه في كتاب «النكاح» باب «إعلان النكاح» حديث (1895)، من حديث عائشة ل بلفظ: «أَعْلِنُوا هَذَا النِّكَاحَ وَاجْعَلُوهُ فِي الْـمَسَاجِدِ وَاضْرِبُوا عَلَيْهِ بِالدُّفُوفِ». وقال الترمذي: «حديث غريب حسن»، وحسنه الزرقاني في «مختصر المقاصد» ص114، وكذا حسنه العجلوني في «كشف الخفاء» (1/162).
(2) «المغني» (10 / 174 وما بعدها).
(3) أخرجه أحمد في «مسنده» (5/353) حديث (23039)، والترمذي في كتاب «المناقب» باب «في مناقب عمر بن الخطاب رضي الله عنه » حديث (3690) من حديث بريدة بن الحصيب رضي الله عنه وقال: «حديث حسن صحيح»، وصححه الألباني في «صحيح وضعيف سنن الترمذي» حديث (3690).
(4) «البدائع» (6/269).
(5) (4/398).
(6) أخرجه مسلم (52).
(7) «نيل الأوطار» (8/271).