هل يجوز الاحتفال المحدود بأعياد الميلاد للأطفال مع تجنُّب المحرمات، كأن يقدم للمحتفل به هدية رمزية، أو يدعو لها بطول العمر وحسن العمل في لقاء يدعو فيه بعض زملائه لحضور هذه المناسبة مثلًا، في مجتمعات عمَّت فيها البلوى بهذه الأشياء؟
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه؛ أما بعد:
فإن الأعيادَ الشرعية عيدان: الفطر والأضحى، وليس لأحد أن يستحدث عيدًا آخر؛ لأن الأعياد من خصوصيات الملل، فهي من جُملة المناسك والشعائر كالقبلة ونحوه، وقد صدرت فتاوى عن مرجعيات فقهية موثوقة بتحريم أعياد الميلاد وتوجيهه بكونه بدعةً، وتشبهًا بغير المسلمين، وإحداثًا لعيدٍ لم يأذن به الشرع المطهر.
وقد سئلت اللجنة الدائمة للإفتاء رقم (20834): ما حكم تعييد ميلاد الأولاد؟ يقال عندنا: إن من الأحسن الصوم في ذلك اليوم بدلًا من التعييد. ما هو الصحيح؟
فأجابت: عيد الميلاد أو الصيام لأجل عيد الميلاد كل ذلك بدعةٌ لا أصل له، وإنما على المسلم أن يتقرب إلى الله بما افترضه عليه وبنوافل العبادات، وأن يكون في جميع أحيانه شاكرًا له وحامدًا له على مرور الأيام والأعوام عليه وهو معافى في بدنه، آمنًا على نفسه وماله وولده. وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو بكر أبو زيد
عضو صالح الفوزان
الرئيس عبد العزيز بن عبد الله بن باز
وسئلت كذلك في الفتوى رقم (19504): تقوم بعض المدارس بتقديم هدايا للأطفال بمناسبة عيد ميلادهم. فهل يجوز للطلاب المسلمين استلام تلك الهدايا؟
فأجابت: تقديم الهدايا وقبولها بمناسبة أعياد الميلاد لا يجوز؛ لأنها أعياد محرَّمة في الإسلام، وما بُنِي على محرَّمٍ فهو محرم. وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو بكر أبو زيد
عضو صالح الفوزان
نائب الرئيس عبد العزيز آل الشيخ
الرئيس عبد العزيز بن عبد الله بن باز
وفي هذا التوجيه نظرٌ، فالبدعة المحرمة هي التي يتديَّن بها، ويُقصد بها المبالغة في التعبُّد لله عز وجل، وقد عرَّف الشاطبي البدعة بقوله: «البدعة: طريقة في الدين مخترعة، تضاهي الشرعية، يقصد بالسلوك عليها المبالغة في التعبد لله سبحانه»(1).
ومن أمثلتها فيما نحن بصدده الاحتفال بالمولد النبوي مثلًا، أو بمولد أحد من أهل البيت، أو الصالحين بصفة عامةٍ، فإن من يفعلون شيئًا من ذلك يفعلونه تعبدًا، ويقصدون به التقرُّب إلى الله عز وجل، ولكن من يفعلون أعيادَ الميلاد لأولادهم لا يفعلونها تدينًا وتنسكًا، وإنما هي سلوك اجتماعي بحت، يدخل في حسهم في جملة العاديات وليس التعبديات.
وقد سئل الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: ما الفرق بين ما يسمى بأسبوع الشيخ محمد بن عبد الوهاب والاحتفال بالمولد النبوي، حيث يُنكر على من فعل الثاني دون الأول؟ فأجاب بقوله: الفرق بينهما حسب علمنا من وجهين:
الأول: أن أسبوع الشيخ محمد بن عبد الوهاب لم يُتخذ تقربًا إلى الله عز وجل، وإنما يُقصد به إزالة شبهة في نفوس بعض الناس في هذا الرجل ويبين ما منَّ الله به على المسلمين على يد هذا الرجل.
الثاني: أسبوع الشيخ محمد بن عبد الوهاب لا يتكرر ويعود كما تعود الأعياد، بل هو أمر بين للناس وكتب فيه ما كتب، وتبين في حق هذا الرجل ما لم يكن معروفًا من قبلُ لكثير من الناس، ثم انتهى أمره.
وسئل رحمه الله: عن حكم إقامة الأسابيع كأسبوع المساجد وأسبوع الشجرة؟
فأجاب بقوله: هذه الأسابيع لا أعلم لها أصلًا من الشرع، وإذا اتخذت على سبيل التعبُّد وخصصت بأيام معلومة تصير كالأعياد فإنها تلتحق بالبدعة؛ لأن كل شيء يتعبد به الإنسان لله عز وجل وهو غيرُ واردٍ في كتاب الله ولا في سنة رسوله صلى الله عليه وسلم فإنه من البدع. لكن الذين نظموها يقولون: إن المقصود بذلك هو تنشيط الناس على هذه الأعمال التي جعلوا لها هذه الأسابيع وتذكيرهم بأهميتها، ويجبُ أن ينظر في هذا الأمر وهل هذا مسوغ لهذه الأسابيع أو ليس بمسوغ؟
فاعتبر قصد التقرب والتدين ليدخل الفعل في دائرة الابتداع ابتداء.
وإذا ضعف توجيهُ المنع من أعياد الميلاد بكونها من البدع، فقد بقي توجيهها بالتشبُّه بغير المسلمين، وقد نهينا عن التشبه بهم، وبكونها استحداثًا لعيد لم تأتِ به الشريعة، وقد قال صلى الله عليه وسلم لأبي بكر: «إِنَّ لَكُلِّ قَوْمٍ عِيدًا، وَهَذَا عِيدُنَا أَهْلَ الْإِسْلَامِ»(2).
أما بالنسبة للتشبُّه، فقد ثبت عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ»(3).
وفي الصحيحين عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، شِبْرًا شِبْرًا، وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ، حَتَّى لَوْ دَخَلُوا جُحْرَ ضَبٍّ تَبِعْتُمُوهُمْ». قلنا: يا رسول الله، اليهود والنصارى؟ قال: «فَمَنْ؟!»(4). ومعنى قوله: «فَمَنْ؟!» أي: هم المعنيُّون بهذا الكلام.
فائدة لطيفة:
ولعلَّ مما يحسنُ التنبيهُ عليه أن الشيء إذا كان أصله مما اختص به الكفار من العادات، ثم شاع وانتشر في أوساط المسلمين؛ زال عنه وصف التشبُّه؛ فلا يحرم.
فقد سئل الإمام مالك عن البرنس؟ فقال: لا بأس به. قيل: فإنه من لبوس النصارى؟ قال: كان يلبس هاهنا(5).
فالبرنس خاصٌّ برهبان النصارى، ثم شاع ولبسه غيرهم، فلبسه بعض الصحابة، منهم حذيفة بن اليمان وأنس بن مالك؛ فزال عنه وصفُ اختصاصِه بالكفار.
وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: أن رجلًا قال: يا رسول الله، ما يلبس الـمُحرِمُ من الثياب؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لَا يَلْبَسُ الْقُمُصَ وَلَا الْعَمَائِمَ وَلَا السَّرَاوِيلَاتِ وَلَا الْبَرَانِسَ…»(6).
فأباح النبي صلى الله عليه وسلم لُبسَ البُرْنُس لغير الـمُحرم، مع أن أصله من لبوس رهبان النصارى.
والبرنس: ثوب غطاء الرأس منه يلبس فوق الثياب.
قال الحافظ ابن حجر في «الفتح» في كلامه على المياسر: «الأرجوان، وهو فراش صغير أو شيء كالمخدة يجعله راكبُ الفرس تحته، وكانت من فعل الأعاجم: وإن قلنا: النهي عنها من أجل التشبه بالأعاجم، فهو لمصلحة دينية، لكن كان ذلك شعارهم حينئذ وهم كفار، ثم لما لم يصر الآن يختص بشعارهم زال المعنى، فتزول الكراهة. والله أعلم»(7). اهـ.
وقال أيضًا ردًّا على من جعل لبس الطَّيْلَسان- وهو نوع من الثياب- من التَّشبُّه؛ لأنه من لباس اليهود كما في حديث الدجال: «وإنما يصلح الاستدلال بقصَّة اليهود في الوقت الذي تكون الطيالسة من شعارهم، وقد ارتفع ذلك في هذه الأزمنة فصار داخلًا في عموم المباح»(8).
قال الشيخ محمد بن عثيمين: التشبه بالكفار: أن يعمل المسلم شيئًا من خصائصهم، أما ما انتشر بين المسلمين وصار لا يتميَّز به الكفار؛ فإنه لا يكون تشبهًا، فلا يكون حرامًا من أجل أنه تشبُّهٌ، إلا أن يكون محرمًا من جهة أخرى. مثل الآن: لبس البنطلون للرجال، لا نقول هذا تشبه؛ لأنه صار عادة للجميع. اهـ.
ومن الأمثلة على ذلك: ما تلبسه العروس ليلةَ زفافها من ثوب أبيض وطرحة، أو ما اعتاد كثير من الناس على لبسه من البدلة ورابطة العنق، وليس شيء من هذا من فعل المسلمين، لكنه شاع فزالَ عنه وصفُ التشبه، وليس من التشبُّه المحرم الاستفادة من علوم غير المسلمين وصناعاتهم، فقد حفر النبي صلى الله عليه وسلم الخندقَ بإشارة سلمان الفارسي، ولم يكن ذلك معروفًا عند المسلمين، وكانت حوائج المسلمين من لباس وغيره تجلب من الشام ومن اليمن، وكانتا بلادَ كفر.
ومن يحرم البدلة الإفرنجية أو رابطة العنق فقد يسوقه ذلك إلى أن يحرم الشماغ؛ لأنه كان معروفًا عند أهل جاوة قبل دخولهم في الإسلام، بل قد يجرُّه كذلك إلى تحريم الثياب الباكستانية؛ لأنها في الأصل ثياب شبه القارة الهندية، وقد كانوا على الشرك والوثنية، ولا يزال السواد الأعظم من الهنود كذاك، ففيهم من الهندوس والسيخ ما لا يحصى.
ومن العجب أن كثيرًا من المتدينين يحرصون على ارتدائها، ويخالفون بها العادات المنتشرة في الثياب في مجتمعاتهم، ويستفزون بها السواد الأعظم من بني أوطانهم، ويعتبرونها شعارًا للتديُّن، وهي في الأصل لباس القوم قبل الإسلام وليس لها خصوصية ارتباط بالتديُّن.
وقد سئلت اللجنة الدائمة للإفتاء ببلاد الحرمين عن البدلة والبنطلون؟ فأجابت: أما لُبس البنطلون والبدلة وأمثالهما من اللباس؛ فالأصل في أنواع اللباس الإباحة، لأنَّهُ من أمور العادات؛ قال تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} [الأعراف: 32].
ويستثنى من ذلك ما دلَّ الدليل الشرعيُّ على تحريمه أو كراهته كالحرير للرجال، والذي يصفُ العورةَ لكونه شفافًا يرى من ورائه لون الجلد، أو ككونه ضيقًا يحدد العورة؛ لأنه حينئذٍ في حُكم كشفها، وكشفها لا يجوز. وكالملابس التي هي من سيم الكفار؛ فلا يجوز لبسها لا للرجال ولا للنساء؛ لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن التشبُّه بهم(9)، وكلبس الرجال ملابس النساء ولبس النساء ملابس الرجال؛ لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن تشبه الرجال بالنساء والنساء بالرجال(10).
وليس اللِّباس المسمى بالبنطلون مما يختصُّ بالكفار، بل هو لباس عام في المسلمين والكافرين في كثير من البلاد والدول، وإنما تنفر النفوس من لبس ذلك في بعض البلاد، لعدم الإلف ومخالفة عادة سكانها في اللباس، وإن كان ذلك موافقًا لعادة غيرهم من المسلمين.
لكن الأولى بالمسلم إذا كان في بلد لم يعتد أهلها ذلك اللباس ألَّا يلبسه في الصلاة ولا في المجامع العامة ولا في الطرقات.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
وقد سئل الشيخ بن عثيمين رحمه الله: عن لبس رابطة العنق من قبل بعض أساتذة معهد العلوم الإسلامية بفرجينيا التابع لجامعة الإمام محمد بن سعود؟ فقال لهم الشيخ: ما دمتم تلبسون البدلة، فالكرافتة من تمام الزينة. وأباح لبسها، رحمه الله.
فهل لقائلٍ أن يقول: إن هذه العادة لشيوعها في كثيرٍ من المجتمعات الإسلامية لم تَعُد من خصائص القوم، وإنما صار شأنها شأن العادات الحياتية الأخرى، التي يكون حسنها حسن وقبيحها قبيح؟ وربما نوزع بأنه لم يتحقق تعريب هذه العادة أو أسلمتها بعد، ولم تشع بين أهل الإسلام شيوع البدلة والبنطال وربطة العنق، فلا تزال من خصائص القوم، فالتشبه بهم فيها تشبه مذموم، ويبقى الأمر في إطار النظر والتأمل، والسلامة لا يعدلها شيء، وخير دينكم الورع(11)، ومن اتقى الشبهات فقد استبرأ لعرضه ودينه(12).
هل اعتياد مباح من المباحات، وتكراره في ميقات معلوم يجعله من جملة العبادات؟
أما بالنسبة لاعتباره إحداثًا لعيد لم يأذن به الله، فيتفرَّع القول في ذلك على المراد بالعيد الذي يُعَد من جملة الشرع والمناهج والمناسك التي قال فيها الله سبحانه:{لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا } [المائدة: 48]، وقال: {لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ } [الحج: 67]، كالقبلة والصلاة والصيام ونحوه، ويبعد تعليق التحريم بمجرد التسمية، وإنما لوجود حقيقة العيد التي نبحث عن تحريرها في هذا المقام.
لقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في «اقتضاء الصراط المستقيم»: أن العيد اسمٌ لما يعود من الاجتماع العام على وجه معتاد، إما بعود السنة أو الأسبوع أو الشهر أو نحو ذلك(13).
والعيد يجمع أمورًا:
• منها: اليوم العائد، كيوم الفطر والأضحى والجمعة.
• ومنها: الاجتماع فيه.
• ومنها: أعمال تتبع ذلك، من العادات والعبادات، كصلاة العيد واللعب في ذلك اليوم؛ قال ابن عباس: شهدت العيد مع رسول الله(14). أي: الصلاة والاجتماع.
• وقد يختص العيد بمكان بعينه أو يكون مطلقًا، كقوله: «لَا تَتَّخِذُوا قَبْرِي عِيدًا»(15).
وكل من هذه الأمور قد يُسمَّى عيدًا، فالعيد يكون للزمن الذي يعظم على الدوام، ويكون للمكان المعظم على الدوام كذلك، وما يكون في الزمان والمكان من العبادات كالصلاة والذَّبح والذكر ونحوها، والعادات كاللعب والأكل ونحوها، وتعظيم أي زمان أو مكان لم يعظمه الشارع فهو بدعة محرمة.
• وقد يكون لفظ العيد اسمًا لمجموع اليوم والعمل فيه، وهو الغالب، كقول النبي صلى الله عليه وسلم: «دَعْهُمَا يَا أَبَا بَكْرٍ؛ فَإِنَّ لِكُلِّ قَوْمٍ عِيدًا، وَإِنَّ هَذَا عِيدُنَا»(16).
وقال ابن القيم رحمه الله في «إغاثة اللهفان»: «العيد ما يعتاد مجيئه وقصده من زمان ومكان، مأخوذ من المعاودة والاعتياد، فإدا كان اسمًا للمكان فهو الذي يقصد فيه الاجتماع وانتيابه للعبادة أو لغيرها، كما أن المسجد الحرام ومِنى ومزدلفة وعرفة والمشاعر جعلها الله عيدًا للحنفاء ومثابة. كما جعل أيام العيد فيها عيدًا، وكان للمشركين أعيادٌ زمانية ومكانية، فلما جاء الله بالإسلام أبطلها، وعوض الحنفاء منها عيد الفطر وعيد النحر وأيام مِنى، كما عوضهم عن أعياد المشركين المكانية بالكعبة ومنى ومزدلفة وعرفة والمشاعر»(17).
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: عيد: اسم لما يعتاد فعله أو التردُّد إليه، فإذا اعتاد الإنسان أن يعمل عملًا كما لو كان كلما حال عليه الحول صنع طعامًا ودعا الناس فهذا يسمى عيدًا؛ ولأنه جعله يعود ويتكرر(18).
فالعيد إذن من العود، فهو أعمال معينة تطَّرد المداومة عليها في ميقات معلوم، وتتكرَّر كلما عاد هذا الميقات، وتمتزج فيه العبادات والعادات، حتى يصدق عليها أنها من جملة الشعائر كالمحراب والقبلة.
ولو دققنا النظر في كلام شيخ الإسلام وتلميذه لوجدنا البُعد الديني واضحًا في هذه الأعياد. فهل مجرَّد اعتيادُ مباحٍ من المباحات، وتكراره في ميقات معلوم، كالقبلة والمحراب؛ ولو لم يكن فيه شَوْبٌ من تعبُّد، بل كان من الأمور العادية البحتة، يجعله من جملة المناسك والعبادات؟ ويُعد إحداثًا لعيد لم يأذن به الله؟ وبالتالي يصدق عليه التحريم؟
هل لو اعتاد رجل أن يذهب في إجازة الصيف في كل عام للترويح عن نفسه في مصيف من المصايف، ورتَّب ذلك بصورة مطَّردة، في مواقيت معينة، ودرج على برنامجٍ بعينه لم يطوره، ونظم نفسه على هذا الأساس سنويًّا، هل يُعَدُّ اعتياد هذا الأمر واطراده في مواقيت محددة من الأمور البدعية المحرمة؟
وهل هذا الاعتياد والتكرار يجعله من جملة المناسك والشعائر كالقبلة والمحراب؟ أم أن الأمر أعمق من ذلك؟
ومثله لو اعتاد أن يستغل إجازة نهاية الأسبوع في برنامج ترفيهي معين، ودرج عليه أسبوعيًّا بصورة منتظمة لا تبديل فيها ولا تغيير، هل يتحوَّل بذلك إلى عيد مذموم، وينتقل من العادات إلى العبادات والشعائر التي تُعَدُّ توقيفية، ويحرم فيها الإحداث؟
أم أن الأمر لابد أن يحمِلَ في طَيَّاتِه بُعدًا دينيًّا، وأن يكون أثره مما يعمُّ الناس كافَّةً، ولا يبقى خاصًّا على مستوى الآحاد؟
إن عيدي الفطر والأضحى من جملة الشعائر قطعًا، وآثارهما تلحق الأمة كافة، ولا تخصُّ فريقًا منها دون فريق، فهل يلزم وجود هذا البُعد أو ذاك حتى يصدق وصف العيد؟ ويلتحق بالمناسك التي يلزم فيها التوقيف؟ ويحرم فيها الابتداع والإحداث؟
إن الذي يُظهر بُعد هذا العرض، أ آكد أوجه الاحتراز في هذا الباب ما يحملُه هذا المسلك من تبعية فكرية، وهزيمة نفسية، واختراق حضاري، ينبغي أن نحمي ناشئتنا من عواصفه، وليس الأمر خاصًّا بهذه الجزئية بعينها، بل هو مسلك عام ينبغي الاحتياط له والتنبيه عليه.
وتبقى قيمة هذا التحليل في أثره على الموقف من المخالف؛ إذ لا ينبغي أن تجعل هذه القضية من معاقد الولاء والبراء، فللنَّظَرِ فيها مجال وللاجتهاد فيها مساغ، وينبغي ألا تشن الغارة فيها على المخالف.
هذا، ولا منازعة في مشروعية إدخال الفرحة والبهجة على قلوب الأطفال، ولكن بالطرق المشروعة، والتي لا تتضمن تبعيَّة نفسيةً أو فكرية، فجلب الهدايا للأطفال مشروع على مدار العام، ودعوة الأهل والأقارب للسمر وتبادل البهجة مع الصغار والكبار مشروع على مدار العام، ويمكن الاستعاضة عن هذه المناسبات بمناسبات أخرى، فعندما ينهي الطفل جزءًا معينًا من القرآن يحضر أقاربه ليشاركوه البهجة، وعندما يحقق تفوقًا دراسيًّا يمكن تكرار نفس الشيء، وهذا كلما تجدَّدت مناسبات الخير مكن أن تتجدد الدعوة والبهجة والملاطفة، وكل ذلك مشروع وعلى أصل الحلِّ، فلعلنا نكتفي به عن هذه المناسبات الوافدة.
ولا بأس في التدرُّج مع الأطفال لتعويدهم تناسي هذه العادة، فمن نشأ في أوساط تعودت على الاحتفال بأعياد الميلاد فقد يحتاج تعويدُه على الإقلاع عن ذلك إلى تهيئة وتدرُّج، فلا بأس من إهداء شيء رمزي بهذه المناسبة والاقتصار على إخوته وأخواته في إدخال البهجة على نفسه، ريثما يتم إحلالُ المناسبات الأخرى مكان هذه المناسبة تدريجيًّا. والله تعالى أعلى وأعلم.
___________________
(1)«الاعتصام» (1/37 – 39).
(2) أخرجه مسلم في كتاب «صلاة العيدين» باب «الرخصة في اللعب الذي لا معصية فيه في أيام العيد» حديث (892)، من حديث عائشة رضي الله عنها.
(3) أخرجه أبو داود في كتاب «اللباس» باب «في لبس الشهرة» حديث (4031) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، وذكره الحافظ العراقي في «تخريج أحاديث الإحياء» (1/ 217) وقال: «أبو داود من حديث ابن عمر بسند صحيح». وحسنه الألباني في «مشكاة المصابيح» حديث (4347).
(4) متفق عليه أخرجه البخاري في كتاب «أحاديث الأنبياء» باب «ما ذكر عن بني إسرائيل» حديث (3456)، ومسلم في كتاب «العلم» باب «اتباع سنن اليهود والنصارى» حديث (2669).
(5) «فتح الباري» (10/272).
(6) متفق عليه؛ أخرجه البخاري في كتاب «الحج» باب «ما لا يلبس المحرم من الثياب» حديث (1542)، ومسلم في كتاب «الحج» باب «ما يباح للمحرم بحج أو عمرة وما لا يباح» حديث (1177)، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
(7) «فتح الباري» (1/307).
(8) «فتح الباري» (10/274).
(9) والأدلة على ذلك كثيرة:
منها أمرُه صلى الله عليه وسلم تغيير الشيب مخالفة لليهود؛ فقد أخرج البخاري في كتاب «اللباس» باب «الخضاب» حديث (5899)، ومسلم في كتاب «اللباس والزينة» باب «في مخالفة اليهود في الصبغ» حديث (2103) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إِنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى لَا يَصْبُغُونَ فَخَالِفُوهُمْ». والترمذي في كتاب «اللباس» باب «ما جاء في الخضاب» حديث (1752) بلفظ: «غَيِّرُوا الشَّيْبَ وَلَا تَشَبَّهُوا بِالْيَهُودِ» وقال: «حسن صحيح».
ومنها أمره بإعفاء اللحى وإحفاء الشوارب مخالفة للمشركين والمجوس، ففي الحديث المتفق عليه أخرجه البخاري في كتاب «اللباس» باب «تقليم الأظفار» حديث (5892)، ومسلم في كتاب «الطهارة» باب «خصال الفطرة» حديث (259) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «خَالِفُوا الـْمشْرِكِينَ، أَحْفُوا الشَّوَارِبَ وَأَعْفُوا اللِّحَى». وأخرجه مسلم في كتاب «الطهارة» باب «خصال الفطرة» حديث (260) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بلفظ: «جُزُّوا الشَّوَارِبَ وَأَرْخُوا اللِّحَى خَالِفُوا الْـمَجُوسَ».
ومنها أمره بالسحور وتعجيل الفطر مخالفة لأهل الكتاب، فقد أخرج أبو داود في كتاب «الصوم» باب «ما يستحب من تعجيل الفطر» حديث (2353) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لَا يَزَالُ الدِّينُ ظَاهِرًا مَا عَجَّلَ النَّاسُ الْفِطْرَ لِأَنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى يُؤَخِّرُونَ»، وصححه الألباني في «مشكاة المصابيح» حديث (1995).
وقد بيَّن النبي صلى الله عليه وسلم أن من تشبَّه بقوم فهو منهم؛ فقد أخرج أبو داود في كتاب «اللباس» باب «في لبس الشهرة» حديث (4031) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ»، وذكره الحافظ العراقي في «تخريج أحاديث الإحياء» (1/ 217) وقال: «أبو داود من حديث ابن عمر بسند صحيح». وحسنه الألباني في «مشكاة المصابيح» حديث (4347).
( 10) أخرجه البخاري في كتاب «اللباس» باب «المتشبهون بالنساء» حديث (5885) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المتشبهين من الرجال بالنساء والمتشبهات من النساء بالرجال.
(11) أخرجه الحاكم في «مستدركه» (1/ 171) حديث (317)، والطبراني في «الأوسط» (4/ 197) حديث (3960)، والبزار في «مسنده» (7/ 371)، من حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فَضْلُ الْعِلْمِ خَيْرٌ مِنْ فَضْلِ الْعِبَادَةِ، وَخَيْرُ دِينِكِمُ الْوَرَعُ»، وذكره المنذري في «الترغيب والترهيب» (1/ 50) وقال: «رواه الطبراني في الأوسط والبزار بإسناد حسن».
(12) ففي الحديث المتفق عليه؛ الذي أخرجه البخاري في كتاب «الإيمان» باب «فضل من استبرأ لدينه» حديث (52)، ومسلم في كتاب «المساقاة» باب «أخذ الحلال وترك الشبهات» حديث (1599)، من حديث النُّعْمَانِ بن بَشِيرٍ رضي الله عنهما قال: سمعت رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إِنَّ الْـحَلَالَ بَيِّنٌ، وإن الْـحَرَامَ بَيِّنٌ، وَبَيْنَهُمَا مُشْتَبِهَاتٌ لَا يَعْلَمُهُنَّ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، فَمَنِ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ، وَمَنْ وَقَعَ في الشُّبُهَاتِ وَقَعَ في الْـحَرَامِ كَالرَّاعِي يَرْعَى حَوْلَ الْـحِمَى يُوشِكُ أَنْ يَرْتَعَ فِيهِ».
(13) «اقتضاء الصراط المستقيم» ص189.
(14) أخرجه البخاري في كتاب «الجمعة» باب «الخطبة بعد العيد» حديث (962).
(15) أخرجه أحمد في «مسنده» (2/367) حديث (8790) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه؛ وصححه الألباني في «أحكام الجنائز» (10).
(16) متفق عليه؛ أخرجه البخاري في كتاب «المناقب» باب «مقدم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه المدينة» حديث (3931)، ومسلم في كتاب «صلاة العيدين» باب «الرخصة في اللعب الذي لا معصية فيه في أيام العيد» حديث (892).
(17) «إغاثة اللهفان» ص190.
(18) «مجموع فتاوى ورسائل ابن عثيمين» (9/ 443).