هل يُشرع التصفيق عند استحسان أمرٍ أو الفرح به؟ وما مدى مشروعية التكبير بدلًا منه؟
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه؛ أما بعد:
فقد نهت السنة المطهرة الرجالَ عن التصفيق فيما ينوبهم في الصلاة، وجعلت التسبيح بدلًا من ذلك، وخصت التصفيق بالنساء.
ففي الصحيحين: من حديث سهل بن سعد رضي الله عنه : أن رسولَ الله ﷺ ذهب إلى بني عمرو بن عوف؛ ليصلح بينهم، فحانت الصلاة، فصلى أبو بكرٍ بالناس، فجاء رسول الله ﷺ وهم في الصلاة، فصفق الناس وأكثروا من التصفيق حتى التفت أبو بكر فرأى النبي ﷺ، فتأخر وتقدَّم النبي ﷺ… وفي آخره قال النبي ﷺ: «مَا لِي أَرَاكُمْ أَكْثَرْتُمْ مِنَ التَّصْفِيقِ؟! مَن نَابَهُ شَيْءٌ فِي صَلَاتِهِ فَلْيُسَبِّحْ؛ فَإِنَّهُ إِذَا سَبَّحَ الْتُفِتَ إِلَيْهِ، وَإِنَّمَا التَّصْفِيقُ لِلنِّسَاءِ»(1).
وقد ذكر الله عز و جل أن التصفيق كان دَيْدَن المشركين في صلاتهم عند البيت، فقال تعالى: ﴿وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَة﴾ [الأنفال: 35].
وقد ثبت عن ابن عباس وابن عمر وعطية ومجاهد والضحاك والحسن وقتادة أنهم قالوا: المكاء: الصفير، والتصدية: التصفيق(2).
وقال ابن الجوزي رحمه الله تعالى في «تلبيس إبليس» (1/316): «والتصفيق منكر، يطرب ويخرج عن الاعتدال، وتتنزه عن مثله العقلاء، ويتشبه فاعله بالمشركين فيما كانوا يفعلونه عند البيت من التصدية، وهي التي ذمَّهم الله عز و جل بها، فقال: ﴿وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً﴾ [الأنفال: 35]»(3).اهـ.
والخلاصة أن التصفيق للرجال مخالف لهدي النبي ﷺ وأصحابه، فإنه لم ينقل عنهم مطلقًا فيما نعلم أنهم كانوا إذا استحسنوا شيئًا صفقوا، بل كانوا يعبرون عن استحسانهم للشيء بالقول، أو بالتكبير والتسبيح وذكر الله عز و جل . والأدلة على ذلك كثيرة، منها:
ما في الصحيحين من حديث أبي إسحاق السبيعي، عن عمرو بن ميمون، عن عبد الله بن مسعود قال: قال لنا رسول الله ﷺ: «أَمَا تَرْضَوْنَ أَنْ تَكُونُوا رُبُعَ أَهْلِ الْـجَنَّةِ؟» فكَبَّرنا، ثم قال: «أَمَا تَرْضَوْنَ أَنْ تَكُونُوا ثُلُثَ أَهْلِ الْـجَنَّةِ؟» فكبَّرنا، ثم قال: «إِنِّي لَأَرْجُو أَنْ تَكُونُوا شَطْرَ أَهْلِ الْـجَنَّةِ»(4).
وفي الصحيح وغيره: عن أسماء بنت أبي بكر في قصة ولادة عبد الله بن الزبير، وكان أول مَن وُلد في الإسلام بالمدينة مُقدِم رسول الله ﷺ، وكانت اليهود تقول: قد سحرناهم، فلا يُولد لهم بالمدينة ولد ذكر(5). وفي بعض الروايات: فكبَّر أصحابُ رسول الله ﷺ حين وُلد عبد الله تكبيرًا حتى ارتجَّت المدينة(6).
وفي قصة إسلام عُمَر المشهورة في السير: قال عمر لما طرق بابَ دار الأرقم: ولم يعلموا بإسلامي، فما اجترأ أحدٌ منهم أن يفتح لي، حتى قال لهم رسول الله ﷺ: «افْتَحُوا لَهُ، فَإِنْ يُرِدِ اللهُ بِهِ خَيْرًا يَهْدِهِ». قال: ففُتح لي الباب، فأخذ رجلان بعَضُديَّ حتى دَنَوْت من رسول الله ﷺ، فقال لهم رسول الله ﷺ: «أَرْسِلُوهُ». فأرسلوني، فجلست بين يديه، فأخذ بمجامع قميصي، ثم قال: «أَسْلِمْ يَا ابْنَ الخَطَّابِ، اللَّهُمَّ اهْدِهِ». فقلت: «أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَأَنَّكَ رَسُولُ الله». قال: «فَكَبَّرَ الـمُسْلِمُونَ تَكْبِيرَةً سُمِعَتْ فِي طُرُقِ مَكَّةَ»(7).
وفي الصحيح: عن أبي هريرة مرفوعًا: «بَيَنْمَا رَاعٍ فِي غَنَمِهِ، عَدَا الذِّئْبُ فَأَخَذَ مِنْهَا شَاةً، فَطَلَبَهَا حَتَّى اسْتَنْقَذَهَا، فَالْتَفَتَ إِلَيْهِ الذِّئْبُ فَقَالَ لَهُ: مَن لَـهَا يَوْمَ السَّبْعِ، لَيْسَ لَهَا رَاعٍ غَيْرِي؟» فقال الناس: سبحان الله! فقال: «فَإِنِّي أَومِنُ بِهِ وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ»(8).
وفي «مسلم»: عن جابر بن سَمُرة قال: سمعتُ رسولَ الله ﷺ يقول: «لَا يَزَالُ هَذَا الدِّينُ عَزِيزًا إِلَى اثْنَيْ عَشَرَ خَلِيفَةً». زاد أبو داود: فكبَّر الناس وضجُّوا(9).
ففي هذه الأحاديث ونظائرها كثيرةٌ في السنة المطهرة دلالةٌ على أن هَدْي النبي ﷺ وأصحابه هو التكبير والتسبيح إذا أرادوا التعبير عن استحسانهم أو إظهار فرحهم أو دهشتهم، وليس مِن هَدْيهم التصفيق، والخيرُ كلُّ الخير في الاتباع. والله تعالى أعلى وأعلم.
________________
(1) متفق عليه: أخرجه البخاري في كتاب «الأذان» باب «من دخل ليؤم الناس فجاء الإمام الأول» حديث (684)، ومسلم في كتاب «الصلاة» باب «تقديم الجماعة من يصلي بهم إذا تأخر الإمام» حديث (421).
(2) انظر «إغاثة اللهفان» لابن القيم ص244.
(3) «تلبيس إبليس» (1/316).
(4) متفق عليه؛ أخرجه البخاري في كتاب «الرقاق» باب «كيف الحشر» حديث (6528)، ومسلم في كتاب «الإيمان» باب «كون هذه الأمة نصف أهل الجنة» حديث (221).
(5) أخرجه الحاكم في «مستدركه» (3/632) حديث (6330) وقال: «صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه».
(6) أخرجه ابن سعد في «الطبقات» كما ذكره ابن حجر في «فتح الباري» (9/589).
(7) أخرجه البزار في «مسنده» (9/64) حديث (279) من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، وذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (9/64-65) وقال: «رواه البزار وفيه أسامة بن زيد بن أسلم وهو ضعيف».
(8) متفق عليه؛ أخرجه البخاري في كتاب «المزارعة» باب «استعمال البقر للحراسة» حديث (2324)، ومسلم في كتاب «فضائل الصحابة» باب «من فضائل أبي بكر الصديق رضي الله عنه ».
(9) أخرجه مسلم في كتاب «الإمارة» باب «الناس تبع لقريش والخلافة في قريش» حديث (1821).