قربت أن أفقد إيماني من كثرة الابتلاء، أطلب الغوث.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:
فإلى من شاء الله ابتلاءه بالشدائد والكروب، أبادرك بهذا الحديث المبارك: «عَجِبَ رَبُّكَ مِنْ قُنُوطِ عِبَادِهِ وَقُرْبِ فَرَجِهِ! يَنْظُرُ إِلَيْكُمْ أَذَلِّينَ قَنِطِينَ فَيَظَلُّ يَضْحَكُ، يَعْلَمُ أَنَّ فَرَجَكُمْ قَرِيبٌ».
وأدعوك أيها المبارك إلى تأمل قول النبي: «عَجَبًا لِأَمْرِ الْـمُؤْمِنِ إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ وَلَيْسَ ذَاكَ لِأَحَدٍ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِ؛ إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ».
فكم من نعمة لو أعطيها العبد كانت داءه! وكم من محروم من نعمة حرمانه شفاؤه! عَسَىٰ أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ ۖ وَعَسَىٰ أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ ۗ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ [البقرة: 216].
كما أدعوك إلى أن تجيل بصرك في هذه الوقفات فهي مطعمة بنور الوحي، ومعطرة بعبير الرسالة، أسأل الله تعالى أن يجعل في تدبرها إعانة لك على تجاوز محنتك.
الوقفة الأولى: لم ينزل بلاء إلا بذنب، هذه حقيقة إيمانية تنطق بها نصوص الوحي المعصوم قرآنًا وسنة صحيحة؛ وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ [الشورى: 30]، أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّىٰ هَٰذَا ۖ قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ ۗ إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [آل عمران: 165].
فلم ينزل بلاء إلا بذنب، ولم يكشف إلا بتوبة، فلعلك أن تبادر بالتنقيب في صحائف أعمالك لتقف من خلالها على سبب هذا البلاء فتبادر إلى رفعه.
والبلاء عنوان المحبة؛ فعن أنس بن مالك قال: قال رسول الله: «إِنَّ عِظَمَ الْـجَزَاءِ مَعَ عِظَمِ الْبَلَاءِ، وَإِنَّ الله إِذَا أَحَبَّ قَوْمًا ابْتَلَاهُمْ، فَمَنْ رَضِيَ فَلَهُ الرِّضَا وَمَنْ سَخِطَ فَلَهُ السَّخَطُ».
فالبلاء والأسقام إذا كانت فيمن أحسن ما بينه وبين ربه ورزقه صبرًا عليها كانت علامة خير ومحبه؛ قال: «إِذَا أَرَادَ اللهُ بِعَبْدِهِ الْـخَيْرَ عَجَّلَ لَهُ الْعُقُوبَةَ فِي الدُّنْيَا وَإِذَا أَرَادَ اللهُ بِعَبْدِهِ الشَّرَّ أَمْسَكَ عَنْهُ بِذَنْبِهِ حَتَّى يُوَافِيَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ».
ومن تأمل سير الأنبياء والرسل عليهم الصلاة السلام- وهم من أحب الخلق إلى الله- وجد البلاء طريقهم، والشدة والمرض ديدنهم؛ دخل عبد الله بن مسعود على الرسول وهو يُوعك، فقال: يا رسول الله، إنك توعك وعكًا شديدًا. قال: «أَجَلْ، إِنِّي أُوعَكُ كَمَا يُوعَكُ رَجُلَانِ مِنْكُمْ».
وسأله سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: أي الناس أشدُّ بلاء؟ قال: «الْأَنْبِيَاءُ ثُمَّ الْأَمْثَلُ فَالْأَمْثَلُ، فَيُبْتَلَى الرَّجُلُ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ، فَإِنْ كَانَ دِينُهُ صُلْبًا اشْتَدَّ بَلَاؤُهُ وَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ رِقَّةٌ ابْتُلِيَ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ، فَمَا يَبْرَحُ الْبَلَاءُ بِالْعَبْدِ حَتَّى يَتْرُكَهُ يَمْشِي عَلَى الْأَرْضِ مَا عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ».
لقد تأمل السلف هذه العبارة، فعدوا البلاء نعمة، والشدة بشارة؛ ولهذا لما مر وهبٌ بمبتلًى أعمى مجذوم مقعد عريان به وضح، كان يقول: الحمد لله على نعمه. فقال رجل كان مع وهب: أي شيء بقي عليك من النعمة تحمد الله عليها؟ فقال له المبتلى: ارم ببصرك إلى أهل المدينة، فانظر إلى أكثر أهلها، أفلا أحمد الله أنه ليس فيها أحد يعرفه غيري.
الوقفة الثانية: البلاء طريق الجنة، إن المحن والشدائد من جملة ما يبتلي الله به عباده؛ امتحانًا لصبرهم، وتمحيصًا لإيمانهم، بل هي لمن وفق لحسن التأمل والتدبر نعمةٌ عظيمة توجب الشكر؛ قال تعالى: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ ۗ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ ﴿155﴾ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ﴿156﴾ أُولَٰئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ ۖوَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ [البقرة: 155- 157].
فهل هناك ما هو أفضل بعد صلوات الرب ورحمته وهداه؟!
وعن جابر بن عبد الله ب قال: قال رسول الله: «يَوَدُّ أَهْلُ الْعَافِيَةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِينَ يُعْطَى أَهْلُ الْبَلَاءِ الثَّوَابَ لَوْ أَنَّ جُلُودَهُمْ كَانَتْ قُرِضَتْ فِي الدُّنْيَا بِالْـمَقَارِيضِ».
وعن ابن مسعود قال: قال رسول الله: «مَا مِنْ مُسْلِمٍ يُصِيبُهُ أَذًى شَوْكَةٌ فَمَا فَوْقَهَا إِلَّا كَفَّرَ اللهُ بِهَا سَيِّئَاتِهِ كَمَا تَحُطُّ الشَّجَرَةُ وَرَقَهَا».
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله: «مَا يَزَالُ الْبَلَاءُ بِالْـمُؤْمِنِ وَالْـمُؤْمِنَةِ فِي نَفْسِهِ وَوَلَدِهِ وَمَالِهِ حَتَّى يَلْقَى اللهَ وَمَا عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ».
وأتت امرأة إلى النبي فقالت: إني أصرع، وإني أتكشف؛ فادع الله تعالى لي. فقال: «إِنْ شِئْتِ صَبَرْتِ وَلَكِ الْـجَنَّةُ وَإِنْ شِئْتِ دَعَوْتُ اللهَ أَنْ يُعَافِيَكِ». فقالت: أَصبِرُ.
ودخل على أم السائب، فقال: «مَا لَكِ يَا أُمَّ السَّائِبِ تُزَفْزِفِينَ؟». قالت: الحُمى لا بارك الله فيها. فقال: «لَا تَسُبِّي الْـحُمَّى؛ فَإِنَّهَا تُذْهِبُ خَطَايَا بَنِي آدَمَ كَمَا يُذْهِبُ الْكِيرُ خَبَثَ الْـحَدِيدِ».
لعل لك أيها الحبيب عند الله تعالى منزلة لا تبلغها بعملك، فما يزال الله تعالى يبتليك بحكمته بما تكره ويصبرك على ما ابتلاك به، حتى تبلغ تلك المنزلة، فلم الحزن إذًا؟!
الوقفة الثالثة: الأجر الجاري، من لطف الله تعالى ورحمته أنه لا يغلق بابًا من أبواب الخير إلا فتح لصاحبه أبوابًا، فعلاوة على ما يكتب للمبتلَى من الأجر جزاء ما أصابهم من شدة ومرض وصبرهم عليه؛ لا يحرمهم ثواب ما اعتادوا فعله من الطاعات إذا قصروا عنها بسبب هذا الابتلاء؛ فعن أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله: «إِذَا مَرِضَ الْعَبْدُ أَوْ سَافَرَ كُتِبَ لَهُ مِثْلُ مَا كَانَ يَعْمَلُ مُقِيمًا صَحِيحًا».
فأي كرم بعد هذا الكرم؟! وأي فضل أوسع من فضل مسدي النعم؟!
الوقفة الرابعة: إن مع العسر يسرًا، هذه سنة الله تعالى في خلقه، ما جعل عسرًا إلا جعل معه وبعده يسرًا، والمحن مهما طالت وعظمت لابد لأيامها أن تنتهي، ولابد لساعاتها بإذن الله أن تنجلي.
وَلَرُبَّ نازِلَةٍ يَضيقُ لَـهَا الفَتَى
ذَرْعًا وَعِندَ الله مِنها المَخرَجُ
ضاقَت فَلَمَّا استَحكَمَت حَلَقاتُها
فُرِجَت وَكُنتُ أَظُنُّها لا تُفرَجُ
قال وهب بن منبه: لا يكون الرجل فقيهًا كامل الفقه حتى يعد البلاء نعمة ويعد الرخاء مُصيبة، وذلك أن صاحب البلاء ينتظر الرخاء وصاحب الرخاء ينتظر البلاء.
قال تعالى: فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا ﴿5﴾ إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا [الشرح: 5- 6]، وقال تعالى: سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا [الطلاق: 7].
الوقفة الخامسة: إياك ومزالق الشيطان، فهو لا يفتأ يتربص بالمسلم في حال قوته وضعفه؛ فاحذر رعاك الله من مزالقه.
ومنها: إساءة الظن بالله أو التسخط والجزع؛ فعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الله عز وجل قال: «أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي إِنْ ظَنَّ بِي خَيْرًا فَلَهُ وَإِنْ ظَنَّ شَرًّا فَلَهُ». يعني ما كان في ظنه فإني فاعله به.
إشاعة البلاء أو استطالة زمنه؛ فاحرص على كتم آلامك وأحزانك، واحذر من إشاعة أوجاعك وآلامك، والتحدث بها على سبيل الشكوى والاعتراض، لا على سبيل الإعلام والإخبار؛ قال معروف الكرخي: إن الله ليبتلي عبده المؤمن بالأسقام والأوجاع فيشكو إلى أصحابه فيقول الله تبارك وتعالى: وعزتي وجلالي ما ابتليتك بهذه الأوجاع والأسقام إلا لأغسلك من الذنوب، فلا تشكني.
وأخيرًا أسأل الله جل وعلا أن يلبسك ثوب العافية، وأن يرفع عنك البلاء، وأن يسبغ عليك نعمه ظاهرة وباطنة، والله من وراء القصد وهو أهل التقوى وأهل المغفرة. والله تعالى أعلى وأعلم.