كنت في سابق عهد لي أسبُّ الربَّ غيرَ قاصدٍ ولا عامدٍ، يسبقني بها لساني، أو في حالات غضب شديد، علمًا أن هذا تمَّ قبل زواجي وبعده بمدة ليست بالقصيرة، تتجاوز بكثير زمن العدة، ولا أستطيع أن أتذكر أو أؤكد أنني كنت أتوب في كل مرة، وكنت أمارس حياتي بعدها بشكل عادي.
أنا الآن أعيش حالةً رهيبة من الوساوس والخوف من الله عز وجل، سيما أنه تراودني خبائث عن ذات الله وعن رسوله- عليه أطيب الصلوات- لا أتجرأ على ذكرها، فأقول هذا ليس من الشيطان، خصوصًا أنها كانت تأتيني حتى في شهر رمضان، بل نفسي التي سمحت لي أن أسب ربي ودينه تحت أي ظرف وفي أي حالة لا يمكن إلا أن تكون هي مصدر هذه الخبائث والفظاعات التي تندكُّ لها السماوات والأرض، وبالتالي فهي نفسٌ كافرة لا محالة.
أنا يا شيخنا أعيش عذابًا نفسيًّا شديدًا، حتى إني تركت قيام الليل في الأيام الأخيرة. كيف أفعل وقد تجرأت عليه سبحانه وتعالى ظاهرًا وباطنًا؟!
وما زادني رعبًا وتأزُّمًا هو ما قرأته عن كُفرِ من يفعل ذلك تحت أي ظرف، بل وعن ضرورة قتله حتى وإن تاب، في بعض الفتاوى.
– هل أنا الآن كافر، بعد مرور زمن على ما كان يصدر مني دون قصد؟
– ما حكم زواجي الآن؟
– هل لي من توبة يا شيخنا أستطيع الاستعانة بها على عبادة الله؟
– ما حكم هذه الوساوس؟
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه؛ أما بعد:
فلا شك أن سبَّ الرب جل وعلا أقبحُ القبائح وأشنعُ الكبائر، فهو ينقض الإيمان وينقض الأمان، فقد قال تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا } [الأحزاب: 57].
وقال ابن راهويه: «قد أجمع المسلمون أن من سبَّ الله أو سبَّ رسول الله- أنه كافر بذلك وإن كان مقرًّا بما أنزل الله»(1).
والغضب الذي تتحدث عنه لا يصلح عذرًا يمنع عنك حكمَ الكُفر وعقوبة السبِّ إلا إذا بلغ بك مبلغَ الإغلاق، أي جعلك في حالة لا تدري معها ما تقول، ولا تقصد إليه، وأما دون ذلك فلا يعفيك من تبعة هذا الجرم الشنيع.
ومع هذا فلا يعظم ذنب على التوبة، فقد قال تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال: 38]. وقال تعالى: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى} [طه: 82].
والمرتد إذا راجع الإسلامَ لا يُطالب بتجديد العقدِ على زوجته على الصحيح؛ لأن الصحابة لم يطالبوا من رجع إلى الإسلام من المرتدين بتجديد عقود أنكحتهم.
وأما الوساوس التي تعتريك فلا تسترسل معها، قاومها، واستعذ بالله منها، وقل: الحمد لله الذي ردَّ كيده إلى الوسوسة، فقد روى مسلم في «صحيحه» عن أبي هريرة، قال: جاء ناس من أصحاب النبي ﷺ فسألوه: إنا نجد في أنفسنا ما يتعاظم أحدُنا أن يتكلم به؟ قال: «وَقَدْ وَجَدْتُمُوهُ؟». قالوا: نعم. قال: «ذَاكَ صَرِيحُ الْإِيمَانِ»(2).
قال النووي في شرحه لهذا الحديث: «فقوله ﷺ: «ذلك صريح الإيمان»، و«محض الإيمان»(3) معناه: استعظامكم الكلام به هو صريح الإيمان، فإن استعظام هذا وشدة الخوف منه ومن النطق به، فضلًا عن اعتقاده، إنما يكون لمن استكمل الإيمان استكمالًا محققًا وانتفت عنه الريبة والشكوك»(4).
قال الخَطَّابي: «المراد بصريح الإيمان: هو الذي يعظم في نفوسهم إن تكلموا به، ويمنعهم من قبول ما يُلقي الشيطان، فلولا ذلك لم يتعاظم في نفوسهم حتى أنكروه، وليس المراد أن الوسوسة نفسها صريح الإيمان، بل هي من قِبَل الشيطان وكيده»(5).
وإذا كان الله قد مَنَّ عليك يا بني بالتوبة، فاجتهد في استصلاح ما فسد من علاقتك بربك، اجتهد في تعظيم شعائر الله عز وجل، اجتهد في تعظيم أمر الله ونهيه، وأكثر من الحسنات، واجتهد في الاستزادة من الطاعات، فإن الحسناتِ يذهبن السيئات(6).
وأحسن الظن بربك فهو عند ظن عبده به(7)، ولا تقنط من رحمته، فهو يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات(8). والله تعالى أعلى وأعلم.
____________________
(1) ذكره ابن تيمية في «الصارم المسلول على شاتم الرسول» (3/955).
(2) أخرجه مسلم في كتاب «الإيمان» باب «بيان الوسوسة في الإيمان وما يقوله من وجدها» حديث (132).
(3) أخرجه مسلم في كتاب «الإيمان» باب «بيان الوسوسة في الإيمان وما يقوله من وجدها» حديث (133) من حديث أبي هريرة .
(4) «شرح النووي على صحيح مسلم» (2/154).
(5) انظر: «فتح الباري» (13/273).
(6) قال تعالى: { إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ } [هود: 114].
(7) ففي الحديث الذي أخرجه أحمد في «مسنده» (2/ 391) حديث (9065)، وابن حبان في «صحيحه» (2/ 405) حديث (639)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن الله عز وجل قال: «أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي؛ إِنْ ظَنَّ بِي خَيْرًا فَلَهُ، وَإِنْ ظَنَّ شَرًّا فَلَهُ»، وذكره الألباني في «صحيح الجامع» حديث (4315).
(8) قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ } [الشورى: 25]