يتداول بعضُ طلبةِ العلم عندنا الحديثَ عن منع طلب الدعاء بصفة عامة: لا من الموتى، ولا من الأحياء. أما من الموتى فلكونه شركًا، وأما من الأحياء فلكونه ليس من هَدْي السلف. فما مدى دقة هذا التوصيف؟

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه؛ أما بعد:
أما طلب الدعاء من الموتى فهو غيرُ مشروع؛ فقد وقعت للمسلمين أحداثٌ جسام، ولم ينقل أنه ذهبوا إلى قبر النبي ﷺ يلتمسون منه أن يدعو الله لهم.
وأما توصيفُه على أنه من أعمال الشرك فهو موضعُ نظر، فمِن أهل العلم مَن وَصَفه كذلك، ومنهم من جعله من جنس البدع، والأقرب أنه من جنس البدع؛ لأن من يفعلونه يتأولون جواز ذلك قياسًا على جوازه في حال حياتهم، وأن الصالحين أحياءٌ في قبورهم يشعرون بمن زارهم ويسمعون ما يقولونه لهم بإقدار الله لهم على ذلك، فهم يتأولون بأنهم لا يطلبون من غير الله ما لا يقدر عليه إلا الله، بل يطلبون منه ما يقدر عليه وهو الدعاء، وما يُرجَى معه القبول باعتبار صلاحه وقربه من الله، وسماع الموتى وشعورهم بمن زارهم من قضايا النظر بين أهل العلم، وظواهر النصوص تردُّها، كقوله تعالى: ﴿إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ﴾ [النمل: 80]، وقوله تعالى: ﴿وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ﴾ [فاطر: 22].
وحياة الأنبياء والشهداء في قبورهم حياة برزخية لا تُقاس على حياتنا في هذه الدنيا، ولا يترتب عليها ما يترتب على الحياة الدنيوية من أحكامٍ، فلا يصلح القياس.
ويجب التفريق بين هذه الصورة وبين دعاء الموتى من دون الله، فدعاءُ غيرِ الله فيما لا يقدر عليه إلا الله من أعمال الشرك الأكبر، فاستغاثة المخلوق بالمخلوق كاستغاثة الغريق بالغريق، مع اعتبار عارض الجهالة وسوء التأويل عند إجراء الأحكام.
أما التماس الدعاء ممن يُتوسَّم فيه الصلاح من الأحياء فمشروع، وفي نصوص الوحيين قرآنًا وسنة صحيحة إشارات بينات إلى ذلك؛ فقد قال تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا﴾ [النساء: 64]، وشنَّع على المنافقين لأنهم كانوا يصدون عن السعي إلى رسول الله ﷺ لهم؛ ليستغفر لهم ويستكبرون عن ذلك، كما قال تعالى: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ﴾ [المنافقون: 5].
وقد جرى عليه عملُ الصحابة في الاستسقاء، فكانوا يستسقون بدعاء النبي صلى الله عليه سلم في حياته، وبدعاء عمه العباس بعد مماته ﷺ، وتوسَّل معاوية بيزيد بن الأسود الجرشي، كما توسل به كذلك الضحاك بن قيس في ولايته، والنصوص في ذلك ثابتة في الصحيح، نذكر منها:
ما رواه أنس بن مالك  حيث قال: أصابت الناسَ سَنَةٌ(1) على عهد رسول الله ﷺ، فبينا رسول الله ﷺ يخطب على المنبر يوم الجمعة قام أعرابي فقال: يا رسولَ الله، هلك المال وجاع العيال؛ فادعُ الله لنا أن يسقينا. قال: فرفع رسول الله ﷺ يديه وما في السماء قَزَعةٌ(2). قال: فثار سحابٌ أمثالَ الجبال، ثم لم ينزل عن منبره حتى رأيتُ المطر يتحادر على لحيته. قال: فمُطِرنا يومَنا ذلك وفي الغد ومن بعد الغد والذي يليه إلى الجمعة الأخرى، فقام ذلك الأعرابي أو رجل غيره فقال: يا رسولَ الله تهدَّم البناء، وغرق المال؛ فادعُ اللهَ لنا. فرفع رسول الله ﷺ يديه وقال: «اللَّهُمَّ حَوَالَيْنَا وَلَا عَلَيْنَا». قال: فما جعل رسول الله ﷺ يُشير بيده إلى ناحية من السماء إلا تفرَّجت حتى صارت المدينة في مثل الجَوْبة(3)، حتى سال الوادي، وادي قناة شهرًا. قال: فلم يجئ أحدٌ من ناحيةٍ إلا حدَّث بالجود(4).
وما رواه أنس بن مالك أيضًا: أن عمر بن الخطاب كان إذا قحطوا استسقى بالعباس بن عبد المطلب، فقال: اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا ﷺ فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا. قال: فيُسقَون(5).
ومعنى قول عمر: إنا كنا نتوسل إليك بنبينا ﷺ، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا، هوالتوسل بدعاء النبي ﷺ حال الحياة، وبدعاء عمه العباس بعد ممات النبي ﷺ.
ومن ذلك أيضًا: ما رواه الحافظُ ابن عساكر رحمه الله تعالى في «تاريخه» (18/151/1) بسندٍ صحيح عن التابعيِّ الجليل سليم ابن عامر الخبَائري: أن السماء قحطت، فخرج معاويةُ بن أبي سفيان وأهل دمشق يستسقون، فلما قعد معاوية على المنبر قال: أين يزيد بن الأسود الجُرَشي؟ فناداه الناس، فأقبل يتخطى الناس، فأمره معاوية فصعد على المنبر، فقعد عند رجليه؛ فقال معاوية: اللهم إنا نستشفع إليك اليوم بخيرنا وأفضلنا، اللهم إنا نستشفع إليك اليوم بيزيد بن الأسود الجرشي، يا يزيد ارفع يديك إلى الله. فرفع يديه، ورفع الناس أيديهم، فما كان أوشك أن ثارت سحابةٌ في الغرب كأنها ترس، وهبَّت لها ريح، فسقتنا حتى كاد الناس ألا يبلغوا منازلهم.
وروى ابن عساكر أيضًا بسند صحيح: أن الضحاك بن قيس خرج يستسقي بالناس، فقال ليزيد بن الأسود أيضًا: قُمْ يا بَكَّاء. زاد في رواية: فما دعا إلا ثلاثًا حتى أُمطِروا مطرًا كادوا يغرقون منه(6).
وقد أجازت اللجنة الدائمة للإفتاء ببلاد الحرمين ذلك، وأجازه الشيخ ابن عثيمين : ما لم يترتب عليه محذورٌ من تواكلٍ يُصيب مُلتمِس الدعاء، أو فتنة لمن يُلتمَس منه الدعاء. والله تعالى أعلى وأعلم.

____________________

(1) أخرجه أبو داود في كتاب «الطهارة» باب «كيف المسح» حديث (162) من قول علي .
(2) أخرجه البزار في «مسنده» (1/254) حديث (148)، والمقدسي في «المختارة» (1/325) حديث (219)، وذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (1/179) وقال: «رواه أبو يعلى ورجاله موثقون».
(3) أي: قَحْطٌ.
(4) القطعة من السحاب.
(5) الجوبة: هي الفجوة، ومعناه: تقطع السحاب عن المدينة وصار مستديرًا حولها وهي خالية منه.
(6) متفق عليه؛ أخرجه البخاري في كتاب «الجمعة» باب «الاستسقاء في الخطبة يوم الجمعة» حديث (933)، ومسلم في كتاب «صلاة الاستسقاء» باب «الدعاء في الاستسقاء» حديث (897)، من حديث.