أنا أعمل معيدًا في كلية الهندسة، ومنذ فترة حضرت دورة عن كيفية اتخاذ القرار، وهذه الدورة منوط بها المناصب القيادية، فكان أغلب الحاضرين إما مديرين أو رؤساء مجلس إدارة أو مدربين لمثل هذه الدورات، أي أنهم مستوى اجتماعي عالٍ جدًّا، فكنت أنا كالمتطفل عليهم.
وكانت مدة الدورة ثلاثة أيام متتالية لمدة ثماني ساعات في اليوم، وكانت الدورة عبارة عن ورشة عمل مليئة بالتدريبات التي تهدف إلى أن يتصرف الواحد منا على طبيعته لأقصى درجة، فأحببنا كلنا بعضنا البعض بصورة عجيبة لما رأيناه من خير الفطرة وعدم التكلف أو المداهنة في التعامل، وكان بالنسبة لهم شيئًا مفاجئًا أن يروا شخصًا ملتحيًا يَسهُل التفاهمُ والتعاملُ معه، أي أن فكرتَهم عن الملتحين كانت مُشوَّهة، حتى قالت لي إحداهن: «إحنا مبسوطين أوي إنك معانا». وكأني كائن مختلف بالنسبة لهم، بَوْنٌ شاسع بين ثقافتنا.
المهم أننا في آخر الدورة اتفقنا كلُّنا أن نتقابل بصفة دورية لنحافظ على العلاقة الطيبة والمحبة التي نشأت في هذه الأيام القليلة، وبحماسة ومحبة شديدة رتبت أنا أول لقاء، وكان عددنا ثلاثة عشر شخصًا، وإذ بي أُراجع نفسي وأنا في وسط اللقاء: هذه الجلسة بها اختلاط وبدون ضرورة، وأغلب الحاضرات متبرجات، أغلبهن أمهات وبعضهن أتى بأطفاله معه، ولا انضباط في الجلسة، فهم يمزحون مع بعض ويضحكون رجالًا ونساءً، فتذكرتُ حديثَ النبي ﷺ أنه ينبغي أن يستحيي أحدُنا من الله كما يستحيي الرجل الصالح من قومه، فتخيَّلت أن لو رآني رجل صالحٌ وأنا في هذا المجلس، سأكون في غاية الخجل، وخصوصًا أن الكثير ممن أعرف يعتبرونني قدوة ولا حول ولا قوة إلا بالله، وهذه نعمة الستر.
السؤال: هل أستمر معهم في هذه اللقاءات وترتيبها أم لا؟
النقاط الإيجابية أني أحبهم ويحبونني جدًّا، وأني أُغيِّر نظرتهم للملتزمين دون أن أفعل شيئًا، ولستُ ممن يُحسن الدعوة العامة، فإن سُئلت عن شيءٍ أعلمه أجبتُ وإلا فلا أتكلم، وإن بعضَهم قال لي: إن لي حضورًا شديدًا بتواجدي معهم، بالرغم من صمتي، فعندما يتكلم أيُّ أحدٍ منهم عن الله أجد الجميعَ ينظر لي كالمرجع بالنسبة لهم أحيانًا.
النقاط السلبية ما ذكرتُ من اختلاط وعدم وجود ضرورة لهذا.
أعتذر عن الإطالة، ولكني وددتُ أن أُوضِّح الصورة كاملةً؛ لأنه- كما تعلمت من حضرتك- المفتي أسير المستفتي، والحكم على الشيء فرع عن تصوره. جزاك الله خيرًا، وبارك فيك وفي صحتك وعلمك، وزادك نفعًا للناس.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه و من والاه؛ أما بعد:
فلَعَلِّي أبدأ تعليقي على مسألتك بأن أسوق لك قرار مجمع فقهاء الشريعة بأمريكا حول الاختلاط؛ لأن الناسَ في هذه القضية طرفان وواسطة، ما بين مُترخِّص بجفاء أو متشدِّد بغلوٍّ، وبينهما واسطة تَلتمس الموقف الشرعي المنضبط الذي لا يُبغِّض إلى الناس التديُّنَ ولا يفتح لهم باب التفلت من التكليف وخلع رِبْقته.
لقد ناقش المجمع هذا الموضوع في دورة انعقاد مؤتمره الخامس بمونتريال بكندا، وانتهى فيه إلى القرار التالي:
– الاختلاط تعبير مجمل، منه ما يحل ومنه ما يحرم، ومن هذا وذاك ما هو متفق عليه، ومنه ما هو مختلف فيه.
– فإن قصد به مجرد اجتماع الرجال والنساء في أماكن مفتوحة لأداء عمل مشترك دينيًّا كان أو دنيويًّا، ورُوعيت فيه الآداب الشرعية من الحجاب وغضِّ البصر ونحوه، ورُتِّب المجلس بما يُعين على ذلك، فلا حرج فيه، ومن ذلك اجتماع الرجال والنساء في الخلاء لشهود العيدين، وحَوْلَ المشاعِرِ في الحج، وفي مجالس العلم المفتوحة، سواء أكان ذلك في المسجد أم في غيره، وخروج النساء لقضاء حوائجهن في مجامع الناس، مع ملاحظة التزام النساء بالحجاب وكونهن متباعدات عن الرجال ما أمكن، والتزام الفريقين بالصيانة وغض البصر، ومع التأكيد على أهمية الفصل بين الجنسين في المؤسسات التعليمية، فإن هذا أحفظ للقيم، وأبعد للفتن، وأقطع للذرائع، وأدعى إلى اجتماع الذهن على طلب العلم، وقد بدأَتْ تتنبه إلى ذلك بعض المؤسسات التعليمية في المجتمعات الغربية.
– أما إن قُصد به اختلاط الفريقين وتخلُّلُ صفوفهما فذلك على أصل المنع، ما لم تدعُ إليه ضرورة أو شدة حاجة شرعية مُعتبَرة. ومن الحاجات ما هو منصوص عليه، ومنها ما هو مَقِيس عليه. ومن ذلك ما يكون في الحروب أو التقاضي أو التطبيب ونحوه، مع ملاحظة أن الضرورات والحاجات تُقدَّر بقدرها.
– ومتى كان الاختلاط مباحًا؛ لضرورة أو لحاجة مُعتبَرة فإن هناك ضوابطَ ينبغي أن تُراعَى في كلِّ أحواله، ومنها: غضُّ البصر، وتجنُّب الفحش والعبث، وتحريم الخلوة وتلامس الأبدان، ومنع التزاحم، والالتزام بالصيانة وستر العورات، وأن ترتب المجالس بما يُعين على غضِّ البصر ما أمكن.
– ولا يندرج فيما يسوغ من المصالح والحاجات فَرْضُ الفتيات في المحافل العامة كمُقدِّماتٍ للبرامج أو مُستقبِلات للضيوف ونحوه، وفي المجلس من الشباب من يستطيعون أن يُؤدُّوا هذه الأعمال بنفس المهنية والاقتدار.
– ولا يندرج فيما يسوغ من المصالح والحاجات جَمْعُ العوائل والأُسَر على موائدَ مشتركةٍ مختلطة بمناسبة القيام ببعض الأنشطة الاجتماعية كجمع التبرعات أو وليمة عرس ونحوه.
– وهناك عوامل تُؤثِّر في هذا الباب تضييقًا وتوسيعًا، فإن الذي يظهر من النَّظَر في النصوص وعمل السلف أن أمر الاختلاط يختلف بحسب أعمار الرجال والنساء، والحاجة الداعية إليه، والمناخ الذي يوجد فيه من حيث وجود الفتنة وعدمها، والضابط في ذلك هو الموازنة بين المصالح والمفاسد، وعلى المُكلَّف في هذه الحالات أن يستفتي أهل العلم في الواقعة المُعيَّنة وأن يَصدُر عن فتواهم في ذلك.
– وصفوة القول في ذلك أنه يجب الاحتياط للقيم الإسلامية التي دل عليها الشرع، كالفضيلة والعفاف والستر والصيانة، مع مراعاة الحاجة إلى اشتراك المرأة والرجل في مجالات فعل الخير والتعاون على البر والتقوى، والدعوة والإصلاح، وفي مثل هذا تُقدَّم المصلحة الراجحة على المفسدة المتوهمة.
وقد سُقْتُ لك هذا القرار بتمامه ليكون ميزانًا لك تَزِنُ به الأمور والمواقف في هذه القضية الدقيقة، سواء في هذه النازلة أو في غيرها.
ولا يخفى من التأمل في القرار أن هذا الاختلاط لا تنطبق عليه شروط الاختلاط الذي يُترخَّص فيه، اللهم إلا إذا كان لك برنامجٌ دعويٌّ واضح المعالم وترجحت مصلحته على مفسدة هذا الاختلاط، قد يُكتفَى في البداية أن تتألَّف قلوبهم على السمت الإسلامي، وأن يروا من حسن مخالطتك لهم ما يدفع عنهم تشويش العِلْمانيين، والشانئين، ولكن ينبغي أن تخطو بهم على طريق الهدى خطواتٍ أبعدَ من ذلك، ينبغي أن تغرس في هذه المجالس محبةَ الله ورسوله، والسعيَ إلى التعرف على الغاية من الوجود، وأنها عبادة الله وحده، ثم تُبيِّن أن اللهَ لا يُعبَد إلا بما شَرَع، وأن خير الهَدْي هديُ محمدٍ، ثم تبحث في تراث من يحبونه ويقدرونه من أهل العلم عما يدعم هذه المعاني وينفعهم في حالتهم تلك فتُشِيعه بينهم، لا بأس في المداراة وهي الرفق في النصيحة! ولكن لا تجوز المداهنة بمعنى أن تُظهر لهم موافقتك على ما هم عليهم وتسويغه لهم فيعتقدون أن لهم مخرجًا فيما يفعلون والأمر ليس كذلك!
إن استطعت في كلِّ لقاء أن تفتح لهم بابًا جديدًا من أبواب الخير، وتُغلق عليهم بابًا من أبواب الفتنة والشر، وتقترب بهم من الله وطاعته خطوة، وتبتعد بهم عما يُسخطه ويمقته خطوةً، فأرجو أن تكون على طرف نجاةٍ إن شاء اللهُ، وفي اللحظة التي تستشعر فيها أنك قد استفرغت وُسْعك واستنفَدْتَ جُهْدك، وأنه لا أمل في المزيد، فلا وجه للاستمرار في الاستغراق في بيئة تتضمن ما لا يرضاه الله عز و جل دون أمل في استصلاح أحوالها، وقد تُبقي على حدٍّ أدنى من الصلة بهم منعًا من المزيد من تدهور أحوالهم. زادك الله حرصًا وتوفيقًا، والله تعالى أعلى واعلم.