الأكل في المطاعم التي تُقدِّم المحرمات

ما حكم الأكل في المطاعم التي تُقدِّم المحرمات؟

 

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه؛ أما بعد:
فإن النظر في هذه القضية من جهتين:
الأولى: ما يغشى هذه المطاعم من منكرات ظاهرة، كشرب الخمر وأكل لحم الخنزير ونحوه، وما يترتب على الأكل فيها من مخالطة أصحاب هذه المنكرات دونما ضرورة مُلجئة أو حاجة ماسة.
والثانية: ما يتوقع من تنجس المطاعم المباحة إذا طهيت في نفس الآنية التي تُطهى فيها المطاعم المحرمة ولم تغسل قبل استعمالها.
أما الأولى: فقد تمهد في الشريعة اجتنابُ مشاهد الزور، ومجالس المنكر لمن لا يقدر على إنكارها؛ فقد قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا﴾ [الفرقان: 72] وقال تعالى: ﴿وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا﴾ [النساء: 140].
فمن جاء طائعًا مختارًا إلى مكانٍ يُعصى فيه اللهُ عز و جل  فإنه يُكتب له مثلُ إثم الفاعل، وعن أبي سعيد الخدريِّ قال: سمعتُ رسول الله ﷺ يقول: «مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ»(1).
ومن المعلوم أنه لا سبيل إلى الإنكار في هذه المواضع، اللهم إلا الإنكار بالقلب الذي يقتضي مفارقة هذه المنكرات واجتناب أصحابها، فإن من لم يستطع أن يُزيل المنكر فَلْيزُل هو عنه.
وأما الثانية: فإن الذريعة قريبة في تنجس المطاعم المباحة إذا طُهيت في نفس الآنية التي تُطهى فيها المطاعم المحرمة، وقد ورد قوله ﷺ: «لَا تَأْكُلُوا فِي آنِيَتِهِمْ إِلَّا أَنْ لَا تَجِدُوا بُدًّا فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا بُدًّا فَاغْسِلُوهَا وَكُلُوا»(2).
وفي المسألة تفصيل لابد من إيراده ليكتمل به عقد الحديث في هذه المسألة، ذلك أن أواني غير المسلمين المستعملة لا تنفك عن حالة من الحالات الآتية:
الأولى: أن نتيقن من نجاستها، كما لو ثبت أنهم يطبخون أو يتناولون فيها المطاعم المحرَّمة، فلا يجوز لمسلم أن يستعملها قبل أن يغسلها؛ لأنها أوانٍ نجسة، وليس له أن يأكل ما طُهي فيها قبل تطهيرها.
الثانية: أن نتيقن من طهارتها وغسلها مما يمكن أن يكون أصابها، فلا حرج في استعمالها وتناول ما طُهي فيها.
الثالثة: أن يجهل الحال، وهذا موضع النظر عند أهل العلم:
1. فمنهم من قال بجواز استعمالها وأَكْل ما طُهي فيها، وهو المذهب عند الحنابلة(3)، ووجهٌ عند الشافعية(4)، ومن أدلتهم على ذلك ما يلي:
• عموم الأدلة التي تقضي بحِل طعام أهل الكتاب، كقوله تعالى: ﴿وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ﴾  [المائدة: 5]، ويدخل فيه ما لا يقوم من الطعام إلا بآنية.
• ما ثبت في الصحيح أن النبيَّ ﷺ دعته امرأة يهودية إلى شاة، ووضعت السُّمَّ فيها، فأكل منها عليه الصلاة والسلام(5).
• ما رواه جابر بن عبد الله قال: كنا نغزو مع رسول الله ﷺ فنُصيب آنيةَ المشركين وأسقيتهم فنستمتع بها فلا يعيب ذلك علينا(6).
• ما رواه عبد الله بن مُغفَّل قال: دُلِّيَ جِرابٌ من شحمٍ يومَ خيبر، فالتزمته وقلت: والله لا أُعطي أحدًا منه شيئًا، فالتفتُّ فإذا رسول الله ﷺ(7).
• ما رواه أحمد بإسناد صحيح أن النبيَّ ﷺ أضافه يهوديٌّ بخبزٍ وإهالة سَنِخَةٍ(8).
• ما ثبت في الصحيحين أن النبيَّ ﷺ لما لقي المرأة المشركة التي معها المزادة توضأ هو وأصحابه منها(9).
2. ومنهم من كره استخدامها، وهو مذهب الحنفية(10) والشافعية(11) ورواية عن الإمام أحمد(12)، بل ذهب المالكية(13) إلى تحريمها، وهو رواية عن الإمام أحمد(14).
ومما استدل به القائلون بالمنع:
• ما رواه أبو ثعلبة الخُشَنيُّ قال: قلت: يا رسول الله، إنا بأرضِ قومٍ أهلِ كتابٍ، أفنأكل في آنيتهم؟ فقال رسول الله ﷺ: «إِنْ وَجَدْتُمْ غَيْرَهَا فَلَا تَأْكُلُوا فِيهَا، وَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَاغْسِلُوهَا وَكُلُوا فِيهَا»(15).
• وأنهم لا يتورعون عن النجاسة ولا تسلم آنيتهم منها.
فمن قال بالكراهة رأى أن أقلَّ أحوال النهي الكراهة، ومن رأى التحريم يأخذ بظاهر النص، والأصل في النهي التحريم.
والذي يظهر هو رجحان القول الأول؛ لما ذُكر من الأدلة، ويُحمل حديث ثعلبة  على أواني مَن كثر منهم وغلب عليهم استعمال النجاسة، كطهي لحم الخنزير وشرب الخمر، بدليل رواية أبي داود: وإنهم يطبخون في قدورهم الخنزير ويشربون في آنيتهم الخمر، فنأكل في آنيتهم؟ فقال رسول الله ﷺ: «لَا، إِلَّا أَلَّا تَجِدُوا غَيْرَهَا، فَاغْسِلُوهَا وَكُلُوا فِيهَا»(16).
وصفوة القول في هذا الجانب: أنه إذا تيقَّنا أو غلب على ظنِّنا استعمالُ نفس الآنية التي تُطهى فيها المحرمات بلا غسل، فلا يجوز تناول هذه المطاعم؛ لتنجُّسها، وإن جُهل الحال استُصحب أصلُ الحِل، وتبقى أبوابُ الورع مفتوحةً لمن شاء، وخير دينكم الورع(17).
وصفوة القول في القضية برمتها: أن الأصلَ اجتنابُ هذه المطاعم، إلا لضرورة ملجئة أو حاجة ماسة، والبحث عن مطاعمَ أخرى وإن كانت أبعد مكانًا أو أغلى ثمنًا أو أدنى مستوى تجنُّبًا لمخالطة أصحاب المعاصي بدون إنكار، وتوقيًا من تناول أطعمة تنجست بطهيها في آنية تُطهى فيها المطاعم المحرمة. والله تعالى أعلى وأعلم.

________________________

(1) أخرجه مسلم في كتاب «الإيمان» باب «بيان كون النهي عن المنكر من الإيمان وأن الإيمان يزيد وينقص وأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجبان» حديث (49) من حديث طارق بن شهاب رضي الله عنه .

(2) أخرجه البخاري في كتاب «الذبائح والصيد» باب «آنية المجوس والميتة» حديث (5496) من حديث أبي ثعلبة الخشني

(3) جاء في «الإنصاف» (1/84-85): «قوله ( وثياب الكفار وأوانيهم ، طاهرة مباحة الاستعمال ، ما لم تعلم نجاستها )، رضي الله عنه هذا المذهب مطلقًا. وعليه الجمهور».
(4) جاء في «البيان» (1/87-88): «فأما الذين لا يتدينون باستعمال النجاسة، كاليهود والنصارى : فما تحقق طهارته من ثيابهم وأوانيهم.. فيجوز استعماله ولا يكره. وما تحقق نجاسته.. فلا يجوز استعماله. وما شك فيه من أوانيهم وثيابهم.. فيكره استعماله».

(5) ففي الحديث المتفق عليه؛ الذي أخرجه البخاري في كتاب «الهبة وفضلها والتحريض عليها» باب «قبول الهدية من المشركين» حديث (2617)، ومسلم في كتاب «السلام» باب «السم» حديث (2190)، من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه : أن امرأة يهودية أتت رسول الله ﷺ بشاة مسمومة فأكل منها … الحديث.

(6) أخرجه أحمد في «مسنده» (3/379) حديث (15095)، وأبو داود في كتاب «الأطعمة» باب «الأكل في آنية أهل الكتاب» حديث (3838)، وذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (1/218) وقال: «رواه أحمد ورجاله موثقون».

(7) أخرجه مسلم في كتاب «الجهاد والسير» باب «جواز الأكل من طعام الغنيمة في دار الحرب» حديث (1772).

(8) أخرجه أحمد في «مسنده» (3/210) حديث (13224) من حديث أنس رضي الله عنه ، وذكره المقدسي في «المختارة» (7/87) وقال: «إسناده صحيح».

(9) القصة ثابتة في الصحيحين بغير وضوء وبغير هذا اللفظ من حديث عمران بن حصين: البخاري كتاب «التيمم» باب «الصعيد الطيب» ، ومسلم كتاب «المساجد ومواضع الصلاة» باب «قضاء الصلاة الفائتة».

(10) جاء في «فتح القدير» (1/73-78): «قال الشيخ تقي الدين : من غريب ما يستدل به عليه حديث أبي ثعلبة أخرجاه عنه قال: قلت يا رسول الله إنا بأرض أهل كتابٍ أفنأكل في آنيتهم ؟ قال : إن وجدتم غيرها فلا تأكلوا فيها ، وإن لم تجدوا فاغسلوها وكلوا فيها. وفي رواية أبي داود: إنا نجاور قومًا أهل كتابٍ وهم يطبخون في قدورهم الخنزير ويشربون في آنيتهم الخمر… فذكره . وحديث عمران بن حصينٍ في وضوء النبي صلى الله عليه وسلم من مزادة المشركة ، فإن الأول يدل على نجاسة الإناء والثاني على طهارة الماء ، فجمعهما بأن النجاسة ما لم تؤثر في الماء لم تغيره ، لكن جمهور العلماء على أن النهي في الحديث السابق للكراهة».

(11) جاء في «المجموع» (1/313-321): «قال المصنف رحمه الله تعالى: ( ويكره استعمال أواني المشركين وثيابهم لما روى أبو ثعلبة الخشني رضي الله عنه قال : قلت يا رسول الله إنا بأرض أهل الكتاب ونأكل في آنيتهم ، فقال : لا تأكلوا في آنيتهم إلا إن لم تجدوا عنها بدًا فاغسلوها بالماء ثم كلوا فيها. ولأنهم لا يجتنبون النجاسة فكره لذلك».

(12) جاء في «المغني» (1/61-62): «وهل يكره له استعمال أوانيهم ؟ على روايتين : إحداهما : لا يكره ؛ لما ذكرناه . والثانية يكره لما روى أبو ثعلبة الخشني ، قال : قلت: يا رسول الله ، إنا بأرض قوم أهل كتاب ، أفنأكل في آنيتهم ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن وجدتم غيرها فلا تأكلوا فيها ، وإن لم تجدوا غيرها فاغسلوها وكلوا فيها. متفق عليه، وأقل أحوال النهي الكراهة ؛ ولأنهم لا يتورعون عن النجاسة ، ولا تسلم آنيتهم من أطعمتهم ، وأدنى ما يؤثر ذلك الكراهة».

(13) جاء في «الكافي في فقه أهل المدينة» (1/187): «ولا بأس بالشرب في آنية الكفار كلهم إذا غسلت ونظفت ما لم تكن ذهبًا أو فضة أو جلد خنزير».

(14) جاء في «المبدع» (1/48-49): «وعنه: المنع من الثياب والأواني مطلقًا، لحديث أبي ثعلبة الخشني ، ولأنهم لا يتورعون عن النجاسة، وعنه : الكراهة».

(15) متفق عليه؛ أخرجه البخاري في كتاب «الذبائح والصيد» باب «ما جاء في التصيد» حديث (5488)، ومسلم في كتاب «الصيد والذبائح وما يؤكل من الحيوان» باب «الصيد بالكلاب المعلمة» حديث (130).

(16) أخرجه أبو داود في كتاب «الأطعمة» باب «الأكل في آنية أهل الكتاب» حديث (3839)، وذكره الألباني في «صحيح سنن أبي داود» (3839).

(17) أخرجه الحاكم في «مستدركه» (1/ 171) حديث (317)، والطبراني في «الأوسط» (4/ 197) حديث (3960)، والبزار في «مسنده» (7/ 371)، من حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنه  قال: قال لي رسول الله ﷺ: «فَضْلُ الْعِلْمِ خَيْرٌ مِنْ فَضْلِ الْعِبَادَةِ، وَخَيْرُ دِينِكِمُ الْوَرَعُ»، وذكره المنذري في «الترغيب والترهيب» (1/ 50) وقال: «رواه الطبراني في الأوسط والبزار بإسناد حسن».

تاريخ النشر : 26 ديسمبر, 2017
التصنيفات الموضوعية:   16 الأطعمة

فتاوى ذات صلة:

Send this to a friend