استعمال خلِّ الخمر والنبيذ

هل يجوز استعمال خلِّ الخمر والنبيذ؟

 

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه؛ أما بعد:
فاعلم أن الأصلَ في الأطعمة الإباحة، والخل طعام من الأطعمة، فيأخذ حكمها في الأصل؛ قال تعالى: ﴿قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [الأنعام: 145].
فلا يَحرُم منها إلا ما استثناه الدليل، كتحريم المسكرات، وتحريم كلِّ ذي نابٍ من السِّباع، وكلِّ ذي مِخلب من الطير، ونحوه، وقد ثبت أن النبيَّ ﷺ أكل الخل، ومدحه وأثنى عليه، كما روى مسلم في «صحيحه»: عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه : أن النبيَّ ﷺ سأل أهله الأُدْم، فقالوا: ما عندنا إلا خل. فدعا به، فجعل يأكل به ويقول: «نِعْمَ الأُدْمُ الخَلُّ، نِعْمَ الأُدْمُ الخَلُّ»(1)، ولا يمتدح رسول الله ﷺ طعامًا خبيثًا أو محرمًا، فالخل المستخلص من الفواكه وغيرها طعام مشروع، ما دام أصله فاكهة، وكان مروره بمرحلة التخمر مرورًا غير مقصود، وإنما هو الأمر الذي تقتضيه طبيعة هذه الصنعة، فما من خلٍّ صناعي إلا ويمر بهذه المرحلة، فيمر أولًا بعملية التخمر فيتحول إلى كحول قبل أن يتحول إلى خلٍّ، وبهذا يظهر الفرق بين هذا النوع وما كان أصله خمرًا محرمة قد تميزت خمرًا، وجرى التعامل معها على هذا الأساس، ثم نشأ التوجُّه إلى تخليلها، فهذا الذي لا يصلح استعماله إلا إذا تخلل بنفسه، وفقًا للصحيح من قولي العلماء في ذلك.
ومن الأدلة على النهي عن تخليل الخمر ما يلي:
• ما جاء في «صحيح مسلم» عن أنس: سُئل رسول الله ﷺ عن الخمر تُتخذ خلًّا؟ قال: «لَا»(2).
• ما جاء في «المسند» وغيره من حديث أنس قال: جاء رجلٌ إلى النبيِّ ﷺ وفي حَجْرِه يتيمٌ، وكان عنده خمرٌ حين حُرمت الخمر، فقال: يا رسول الله، أصنعها خلًّا؟ قال: «لَا». فصبَّها حتى سال الوادي(3).
• ما رواه أحمد عن أنس: أن أبا طلحة سأل النبي ﷺ عن أيتام ورثوا خمرًا؟ فقال: «أَهْرِقْهَا». فقال: أفلا نجعلها خلًّا؟ قال: «لَا»(4).
وعلى هذا يُحمل النهي الوارد عن الخمر أن تُتخذ خلًّا؛ فإن المقصودَ به من كان عنده خمر، أي وقعت في حيازته، فلا يجوز له أن يُمسكه ليتخذه خلًّا، ولا أن يتدخل بإضافة بعض المواد إليها لتخليلها، بل يجب عليه أن يُهريقها ويجتنبها؛ إذ لو كان ثمة سبيل إلى استصلاحها وصيانة ماليتها لكان مالُ اليتيم أولى الأموال بذلك؛ لما يجب من حِفظه وتثميره والحيطة عليه.
وقد سُئلت اللجنة الدائمة للإفتاء ببلاد الحرمين هذا السؤال:
لقد اشتبه على كثيرٍ منا أمرُ الخَلِّ، علمًا بأن فيه عندنا في الجزائر درجات كحول ولسنا ندري كيف يُصنع، فهل يتعدى حكمُه إلى الحرمة بتلك الزيادة من الكحول، وليس المقصود من الخلِّ شربه، بل استعماله في كثيرٍ من الأطعمة، كالخس مثلًا، فهل يؤكل هذا الأكل بوجوده فيه أم لا؟
فأجابت:
أولًا: الخل إذا كان أصلُه خمرًا وتخلَّل هذا الخمر بفعل آدميٍّ لا يجوز استعمالُه، والأصل في ذلك: أن أبا طلحة سأل النبي ﷺ عن أيتامٍ ورثوا خمرًا، قال: «أَهْرِقْهَا». قال: أفلا أجعلها خلًّا؟ قال: «لَا».
قال الخطابي رحمه الله تعالى: «في هذا بيانٌ واضح أن معالجةَ الخمر حتى تصير خلًّا غيرُ جائز، ولو كان إلى ذلك سبيلٌ لكان مالُ اليتيم أولى الأموال به؛ لما يجب من حفظه وتثميره والحيطة عليه، وقد كان نهى رسول الله ﷺ عن إضاعة المال، وفي إراقته إضاعتُه، فعُلم بذلك أن معالجتَه لا تُطهِّره ولا تردُّه إلى المالية بحالٍ، وهو قول عمر بن الخطاب رضى الله عنه، وإليه ذهب الشافعي وأحمد بن حنبل»(5).
ثانيًا: إذا تخللت الخمرُ بنفسها جاز استعمالُها، والأصل في ذلك ما أخرجه مسلمٌ والترمذي والنسائي وابن ماجه: أن النبيَّ ﷺ قال: «نِعْمَ الْإِدَامُ الخَلُّ»(6)، وعمومُ هذا الحديث مُخصَّص بالحديث السابق في الأمر الأول.
قال الإمام مالك :: «لا أُحب لمسلمٍ ورث خمرًا أن يحبسها يُخلِّلها، ولكن إن فسدت خمرٌ حتى تصير خلًّا لم أرَ بأكله بأسًا»(7). انتهى.
ثالثًا: إذا كان الخلُّ ليس أصلُه الخمرَ فلا إشكال في حِلِّه؛ لأن كلَّ عصير حمض يُسمَّى خلًّا. انتهى.
الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز، الشيخ عبد الرزاق عفيفي، الشيخ عبد الله بن غديان، الشيخ عبد الله بن قعود. فتاوى اللجنة الدائمة (22/121). والله تعالى أعلى وأعلم.

_______________________

(1) أخرجه مسلم (2051).

(2) أخرجه مسلم في كتاب «الأشربة» باب «تحريم تخليل الخمر» حديث (1983) من حديث أنس .

(3) أخرجه أبو عوانة في «مسنده» (5/106) حديث (7976)، والبيهقي في «الكبرى» (6/37) حديث (10980).

(4) أخرجه أحمد في «مسنده» (3/119) حديث (12210)، وأبو داود في كتاب «الأشربة» باب «ما جاء في الخمر تخلل» حديث (3675)، وذكره ابن الملقن في «البدر المنير» (6/630) وقال: «هذا الحديث صحيح».

(5) «معالم السنن» للخطابي (5/260).

(6) أخرجه مسلم (2051).

(7) «المدونة» 8 – 390.

تاريخ النشر : 26 ديسمبر, 2017
التصنيفات الموضوعية:   16 الأطعمة

فتاوى ذات صلة:

Send this to a friend