قضاء ما ترك من الصلاة عمدًا

في أول العمر من البلوغ حتى سن العشرين تقريبًا لم يكن التزامي كاملًا بالصلاة، كانت تمضي أيامًا وأيامًا بلا صلاة، مع أني أصوم وأصلي الجمعة وبعض الفروض، حتى دخلت الجامعة وتعرَّفت على الشباب الطيب وعرفت الدين والحمد لله، فلا أترك صلاة أبدًا وأسال الله أن أموت على ذلك غير مفرط. والآن وبعد عشرين سنة أُخرى أخاف من لقاء الله ومن السؤال عن الفائت وهو سنين؛ حوالي ست سنين أو أكثر. فهل أُصليها؟ وكيف أحسبها وكنت أحيانًا أصلي وكثيرًا أترك والعياذ بالله؟ مشكلة مؤرقة لاختلاف الأجوبة والآراء، فهل عند الأساتذة جوابٌ شافٍ؟ وجزاكم الله خيرًا.

 

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه و من والاه؛ أما بعد:
فأُبشرك بأنَّ «التَّائِب مِنَ الذَّنْبِ كَمَنْ لَا ذَنْبَ لَهُ»(1)، وهذا الحرص والخوف الذي حمَلك على الاهتمام والسؤال دليلٌ على خيرٍ وعلى حياة القلب وعافيته والحمد لله، نحسبك كذلك والله حَسِيبُك ولا نزكي على الله أحدًا.
أما بالنسبة لقضاء ما تُرك من الصلاة عمدًا فإن للعلماء في قضاء الفوائت التي تُرِكت عمدًا مذهبين:
فالجمهور(2) على القول بقضائها قياسًا أولويًّا على النائم والناسي، فإن من نام عن صلاة أو نسيها فلابد له من صلاتها متى ذكرها، كما أخبر بذلك المعصوم صلى الله عليه وسلم (3)، وأولى منه من تركها عمدًا؛ ولأن دَيْنَ الله أحقُّ أن يُقضى(4).
ومنهم(5) من ذهب إلى أنه لا قضاء على من ترك الصلاة عمدًا؛ لأنه لا عبادة إلا بتوقيف، وقد جاء النص في النائم والناسي، ولم يأتِ في العامد،﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا﴾ [مريم: 64]. وإنما على من ترك شيئًا من الفرائض عمدًا أن يُكثر من النوافل والاستغفار وفعل الصالحات؛﴿إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ﴾ [هود: 114].
والاحتياط هو قول الجمهور.
أمَّا كيف تُقدِّر ما فاتك، يكون ذلك بغلبة الظَّنِّ، واعمل في ذلك بالاحتياط، والأمر في كيفيَّة القضاء واسعٌ، وصفوة القول فيه أن تُصلِّي كلَّ يومٍ زيادةً على الصَّلَوات الخمس الحاضرة ما تستطيع في أيِّ ساعة من ليلٍ أو نهار، ثم تستمر على ذلك حتى تتيقَّن أو يغلب على ظنِّك أنك قد قضيتَ ما فاتك من الصَّلَوات التي لا تعلم عددها؛ ولو استغرق هذا القضاء سنةً أو أكثر.
قال ابن قُدَامة في «المغني»: «إذا كثُرت الفوائتُ عليه يتشاغلُ بالقضاء، ما لم يلحقهُ مشقةٌ في بدنه أو ماله، أما في بدنه فأن يضعُف أو يخاف المرض، وأما في المال فأن ينقطع عن التَّصرُّف في ماله، بحيث ينقطع عن معاشه، أو يُستضر بذلك. وقد نصَّ أحمدُ على معنى هذا. فإن لم يعلم قدر ما عليه فإنه يُعيد حتى يتيقَّنَ براءةَ ذِمَّته. قال أحمدُ في رواية صالحٍ في الرجل يُضيع الصلاة: يُعيد حتى لا يشُكَّ أنه قد جاء بما قد ضيَّع. ويقتصرُ على قضاء الفرائض، ولا يُصلي بينها نوافل، ولا سُننها؛ لأن النبيَّ صلى الله عليه وسلم  فاتته أربعُ صلواتٍ يوم الخندق فأمر بلالًا فأقام فصلَّى الظهر، ثم أمره فأقام فصلَّى العصر، ثم أمره فأقام فصلى المغرب، ثم أمره فأقام فصلى العشاء(6). ولم يُذكر أنه صلَّى بينهُما سُنةً، ولأن المفرُوضة أهمُّ، فالاشتغالُ بها أولى، إلا أن تكون الصلوات يسيرةً، فلا بأس بقضاء سُننها الرواتب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم  فاتته صلاةُ الفجر فقضى سُنَّتها قبلها(7)». انتهى(8).
ويُمكنك أن تأتي مع كلِّ فريضة بفريضةٍ مثلها أو بأكثر. وأن تكثر من النوافل والقربات. والله تعالى أعلى وأعلم.

ــــــــــــــــــــــ

(1) أخرجه ابن ماجه في كتاب «الزهد» باب «ذكر التوبة» حديث (4250) من حديث عبد الله بن مسعودt، وذكره الألباني في «صحيح الترغيب والترهيب» حديث (3145) وقال: «حسن لغيره».
(2) جاء في «المجموع» من كتب الشافعية (3/72-76): «أجمع العلماء الذين يعتد بهم على أن من ترك صلاة عمدا لزمه قضاؤها».
(3) سبق ذكره وتخريجه قضائها» حديث (684).
(4) ففي الحديث المتفق عليه؛ الذي أخرجه البخاري في كتاب «الصوم» باب «من مات وعليه صوم» حديث (1953)، ومسلم في كتاب «الصيام» باب «قضاء الصيام عن الميت» حديث (1148)، من حديث ابن عباس ب: أن امرأة أتت رسول الله ﷺ فقالت: إن أمي ماتت وعليها صوم شهر. فقال: «أَرَأَيْتِ لَوْ كَانَ عَلَيْهَا دَيْنٌ أَكُنْتِ تَقْضِينَهُ؟» قالت: نعم. قال: «فَدَيْنُ الله أَحَقُّ بِالْقَضَاءِ».
(5) جاء في «المجموع» من كتب الشافعية (3/72-76): «وهو أبو محمد علي بن حزم قال: لا يقدر على قضائها أبدا ولا يصح فعلها أبدا قال: بل يكثر من فعل الخير، وصلاة التطوع ليثقل ميزانه يوم القيامة ويستغفر الله تعالى ويتوب».
(6) أخرجه أحمد في «مسنده» (1/375) حديث (3555)، والترمذي في كتاب «الصلاة» باب «ما جاء في الرجل تفوته الصلوات بأيتهن يبدأ» حديث (179)، والنسائي في كتاب «الأذان» باب «الاجتزاء لذلك كله بأذان واحد والإقامة» حديث (662)، من حديث عبد الله بن مسعود t، وقال الترمذي: «حديث عبد الله ليس بإسناده بأس إلا أن أبا عبيدة لم يسمع من عبد الله وهو الذي اختاره بعض أهل العلم في الفوائت أن يقيم الرجل لكل صلاة إذا قضاها وإن لم يقم أجزأه وهو قول الشافعي».
(7) أخرجه مسلم في كتاب «المساجد ومواضع الصلاة» باب «قضاء الصلاة الفائتة واستحباب تعجيل قضائها» حديث (680) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه ، قال: عرسنا مع نبيِّ الله صلى الله عليه وسلم  فلم نستيقظ حتى طلعت الشمس فقال النبي صلى الله عليه وسلم : «لِيَأْخُذْ كُلُّ رَجُلٍ بِرَأْسِ رَاحِلَتِهِ فَإِنَّ هَذَا مَنْزِلٌ حَضَرَنَا فِيهِ الشَّيْطَانُ». قال: ففعلنا، ثم دعا بالماء فتوضأ ثم سجد سجدتين. وقال يعقوب: ثم صلى سجدتين. ثم أقيمت الصلاة فصلى الغداة.
(8) «المغني» (1/355- 356).

 

تاريخ النشر : 26 ديسمبر, 2017
التصنيفات الموضوعية:   02 الصلاة

فتاوى ذات صلة:

Send this to a friend