من قام رمضان بما تيسَّر له، سواء مع الإمام في المسجد أو مع نفسه في بيته أو مع أهله، كل ذلك سواء، وبعض المالكية يقول: الذي يكون حافظًا ماهرًا في القرآن وأراد أن يقوم رمضان في بيته فهو أفضل، ما لم تُعطَّل المساجد من صلاة الجماعة في رمضان؛ لأن النافلة الوحيدة في الصلوات التي تصلى جماعةً هي التراويح.
شيخي الحبيب: كل عام وأنتم والأسرة جميعًا بخير حال.
وأريد أن أسأل: هل هناك فضل لصلاة التراويح والتهجد في جماعة بالمسجد عن الصلاة منفردًا بالبيت إن كان الكمُّ والكيْفُ في البيت أفضلَ؟ ولكم جزيل الشكر.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه؛ أما بعد:
فهذه المسألة من مواضع النظر عند أهل العلم، فمنهم من مال إلى أن صلاة التراويح في البيت أفضل ما لم يؤدِّ ذلك إلى قطع القيام في المساجد، وهو المشهور عند المالكية(1)، واستدلوا على هذا بحديث: «أفْضَلَ الصَّلاةِ صَلاةُ المَرْءِ في بَيْتِهِ إِلَّا المَكْتُوبَةَ»(2)، والتراويح ليست من المكتوبات؛ فإن المكتوبات خمس بإجماع المسلمين على ذلك.
وقوله صلى الله عليه وسلم : «صَلَاةُ الرَّجُلِ مَعَ الرَّجُلِ أَزْكَى مِنْ صَلَاتِهِ وَحْدَهُ، وَصَلَاتُهُ مَعَ الرَّجُلَيْنِ أَزْكَى مِنْ صَلَاتِهِ مَعَ الرَّجُلِ، وَمَا كَثُرَ فَهُوَ أَحَبُّ إِلَى الله»(3).
قال ابن عبد البر في «الاستذكار»: «القيام في رمضان نافلة، ولا مكتوبة إلا الخمس، وما زاد عليها فتطوع، بدليل حديث طلحة: هل علي غيرها؟ قال: «لا، إِلَّا أنْ تَطَّوَّعَ»(4).
وقال صلى الله عليه وسلم : «صَلَاةُ المَرْءِ فِي بَيْتِه أَفْضَلُ مِنْ صَلَاتِهِ فِي مَسْجِدِي هَذَا إِلَّا المَكْتُوبَةَ»(5).
فإذا كانت النافلة في البيت أفضلَ منها في مسجد النبي u، والصلاة فيه بألف صلاة، فأيُّ فضل أبين من هذا؟! ولهذا كان مالك والشافعي ومن سلك سبيلَهما يروْنَ الانفرادَ في البيت أفضلَ في كلِّ نافلة، فإذا قامت الصلاة في المساجد في رمضان ولو بأقل عدد فالصلاة حينئذٍ في البيت أفضل. وقد زدنا هذه المسألة بيانًا في التمهيد والحمد لله»(6).
وذهب الحنابلة(7) إلى ترجيح فعلها في المساجد مع الجماعة؛ لإجماع الصحابة على ذلك؛ ولحديث: «مَنْ قَامَ مَعَ الْإِمَامِ حَتَّى يَنْصَرِفَ كَتَبَ اللهُ لَهُ قِيَامَ لَيْلَةٍ»(8)، وقالوا: إن هذا خاصٌّ في قيام رمضان، فيُقدَّم على عموم قوله صلى الله عليه وسلم : «أفْضَلَ الصَّلاةِ صَلاةُ المَرْءِ في بَيْتِهِ إِلَّا المَكْتُوبَةَ»(9).
قال ابن قدامة في «المغني» (1/456): «فصل: والمختار عند أبي عبد الله فِعْلها في الجماعة، قال في رواية يوسف بن موسى: الجماعة في التراويح أفضلُ، وإن كان رجل يقتدي به فصلاها في بيته خفتُ أن يقتدي الناس به. وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم : «اقْتَدُوا بِالْـخُلَفَاءِ»(10). وقد جاء عن عمر: أنه كان يصلي في الجماعة(11). وبهذا قال المزني، وابن عبد الحكم، وجماعة من أصحاب أبي حنيفة. قال أحمد: كان جابر، وعلي، وعبد الله، يصلونها في جماعة. قال الطحاوي: كل من اختار التفرُّدَ ينبغي أن يكون ذلك على ألَّا يقطعَ معه القيامَ في المساجد، فأما التفرُّد الذي يقطع معه القيام في المساجد فلا. ويروى نحو هذا عن الليث بن سعد، وقال مالك والشافعي: قيام رمضان لمن قوي في البيت أحبُّ إلينا؛ لما روى زيد بن ثابت قال: احتجر رسول الله صلى الله عليه وسلم حُجَيْرةً بخَصَفةٍ أو حصيرٍ(12)، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها، فتتبع إليه رجال، وجاءوا يصلون بصلاته. قال: ثم جاءوا ليلةً فحضروا وأبطأَ رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهم فلم يخرج إليهم، فرفعوا أصواتهم وحصبوا البابَ فخرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم مغضَبًا؛ فقال: «مَا زَالَ بِكُمْ صَنِيعُكُمْ حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ سَيُكْتَبُ عَلَيْكُمْ؛ فَعَلَيْكُمْ بِالصَّلَاةِ فِي بُيُوتِكُمْ؛ فَإِنَّ خَيْرَ صَلَاةِ المَرْءِ فِي بَيْتِهِ إِلَّا الصَّلَاةَ المَكْتُوبَةَ». رواه مسلم(13). ولنا إجماع الصحابة على ذلك، وجمع النبي صلى الله عليه وسلم أصحابَه، وأهله في حديث أبي ذر، وقوله: «إِنَّ الْقَوْمَ إِذَا صَلُّوا مَعَ الْإِمَامِ حَتَّى يَنْصَرِفَ كُتِبَ لَـهُمْ قِيَامُ تِلْكَ اللَّيْلَةِ»(14). وهذا خاصٌّ في قيام رمضان؛ فيُقدَّم على عموم ما احتجوا به، وقول النبي صلى الله عليه وسلم ذلك لهم مُعلَّل بخشية فرضه عليهم؛ ولهذا ترك النبي صلى الله عليه وسلم القيامَ بهم مُعلِّلًا بذلك أيضًا، أو خشية أن يتخذه الناس فرضًا، وقد أمن هذا أن يفعل بعده. فإن قيل: فعَلِيٌّ لم يقم مع الصحابة؟ قلنا: قد روي عن أبي عبد الرحمن السلمي: أن عليًّا رضي الله عنه قام بهم في رمضان(15).
وعن إسماعيل بن زياد قال: مر عليٌّ على المساجد وفيها القناديل في شهر رمضان فقال: نوَّر الله على عُمَر قبرَه كما نوَّر علينا مساجدنا(16). رواهما الأثرم»(17).
وصفوة القول في ذلك أن من قوي على القيامِ في البيت، ولم يكن ذلك مضعفًا لعزيمته، ولا مانعًا له من الاستدامة عليها، ولم يترتب على ذلك تعطيلُ إقامتها في المساجد، وكان القصدُ من ذلك حثَّ الأهل وإعانتهم على القيام، أو وجد أن هذا أجمع لقلبه، وأحسن لتيقُّظِه، فأرجو أن يكون ذلك أفضلَ لمن كان هذا حاله، وهو كما ترى لا يتفق لكل الناس، وكل منا أعرفُ بحاله.
وقد سئل الحسن البصري: يا أبا سعيد، هذا رمضان أظلني، وقد قرأت القرآن، فأين تأمرني أن أقوم: وحدي، أم أنضمَّ إلى جماعة المسلمين فأقوم معهم؟ فقال له: إنما أنت عبدٌ مرتادٌ لنفسك، فانظر أيَّ الموطنين كان أوجلَ لقلبِك وأحسنَ لتيقظُّك فعليك به(18). والله تعالى أعلى وأعلم.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) جاء في «التاج والإكليل» (2/376-378): «(وتراويح) ابن حبيب : قيام رمضان فضيلة. أبو عمر : سنة والجمع له بالمسجد حسن (وانفراد بها) من المدونة قال مالك: قيام الرجل في بيته في رمضان أحب إلي لمن قوي عليه وليس كل الناس يقوى على ذلك (إن لم تعطل المساجد) أبو عمر: إذا قامت الصلاة في المساجد في رمضان ولو بأقل عدد فالصلاة حينئذ في البيت أفضل».
(2) متفق عليه أخرجه البخاري في كتاب «الأذان» باب «صلاة الليل» حديث (731)، ومسلم في كتاب «صلاة المسافرين وقصرها» باب «استحباب صلاة النافلة في بيته وجوازها في المسجد» حديث (781) من حديث زيد بن ثابت رضي الله عنه .
(3) أخرجه أحمد في «مسنده» (5/140) حديث (21302)، وأبو داود في كتاب «الصلاة» باب «في فضل صلاة الجماعة» حديث (554)، والنسائي في كتاب «الإمامة» باب «الجماعة إذا كانوا اثنين» حديث (843)، والحاكم في «مستدركه» (1/375) حديث (904)، وابن حبان في «صحيحه» (5/405) حديث (2056)، كل من حديث أبي بن كعب t، وذكره ابن حجر في «تلخيص الحبير» (2/26) وقال: «أحمد وأبو داود والنسائي وابن حبان وابن ماجه من حديث أبي بن كعب وصححه ابن السكن والعقيلي والحاكم وذكر الاختلاف فيه وبسط ذلك».
(4) متفق عليه؛ أخرجه البخاري في كتاب «الإيمان» باب «الزكاة من الإسلام» حديث (46)، ومسلم في كتاب «الإيمان» باب «بيان الصلوات التي هي أحد أركان الإسلام» حديث (11).
(5) أخرجه أبو داود في كتاب «الصلاة» باب «صلاة الرجل التطوع في بيته» حديث (1044) من حديث زيد بن ثابت t، وذكره العراقي في «تخريج أحاديث الإحياء» (1/156) وقال: «إسناد صحيح».
(6) «الاستذكار» (2/73).
(7) جاء في «المغني» من كتب الحنابلة (2/123-124): «فصل: والمختار عند أبي عبد الله ، فعلها في الجماعة، قال، في رواية يوسف بن موسى: الجماعة في التراويح أفضل».
(8) أخرجه أحمد في «مسنده» (5/163) حديث (21485)، والترمذي في كتاب «الصوم» باب «ما جاء في قيام شهر رمضان» حديث (806) من حديث أبي ذر t وقال: «حسن صحيح»، وذكره الألباني في «صحيح الجامع» حديث (1615).
(9) سبق تخريجه صلاة الليل» حديث (731).
(10) لم أقف عليه بهذا اللفظ؛ ولعله يشير إلى حديث: «عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْـخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْـمَهْدِيِّينَ عَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ»، أخرجه أبو داود في كتاب «السنة» باب «في لزوم السنة» حديث (4607)، والترمذي في كتاب «العلم» باب «ما جاء في الأخذ بالسُّنَّة واجتناب البدع» حديث (2676) من حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه ، وقال الترمذي: «حديث حسن صحيح».
(11) فقد أخرج البخاري في كتاب «صلاة التراويح» باب «فضل من قام رمضان» حديث (2010) عن عبد الرحمن بن عبد القاري أنه قال: خرجت مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه ليلةً في رمضان إلى المسجد، فإذا الناس أوزاع متفرِّقون يصلي الرجل لنفسه ويصلي الرجل فيصلي بصلاته الرهطُ. فقال عمر: إني أرى لو جمعتُ هؤلاء على قارئ واحد لكان أمثلَ. ثم عزم فجمعهم على أبيِّ بن كعب، ثم خرجت معه ليلة أُخرى والناس يصلون بصلاة قارئهم، قال عمر: نعم البدعة هذه! والتي ينامون عنها أفضل من التي يقومون. يريد آخرَ الليل وكان الناس يقومون أوله.
(12) أي: حوَّط موضعًا من المسجد بحصيرٍ ليستره ليصلي فيه ولا يمر بين يديه مارٌّ، ولا يتهوش بغيره، ويتوفر خشوعه وفراغ قلبه. «شرح النووي على صحيح مسلم» (6/69).
(13) سبق تخريجه بيته وجوازها في المسجد» حديث (781).
(14) أخرجه أبو داود في كتاب «الصلاة» باب «في قيام شهر رمضان» حديث (1375)، والترمذي في كتاب «الصوم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم » باب «ما جاء في قيام شهر رمضان» حديث (806)، وقال: «هذا حديث حسن صحيح».
(15) «مشكاة المصابيح» (4 – 665).
(16) أخرجه ابن عساكر في «تاريخ مدينة دمشق» (44/280).
(17) «المغني» (2/123-124).
(18) «قيام رمضان» للمروزي (1- 31).