بين الصلاة جماعة في مصلى موقع العمل والذهاب إلى المسجد

أنا مهندس مدني أعمل في موقع لإنشاء مصنع وبجواره مسجد جامع على بعد 7 دقائق مشيًا تقريبًا، وأذانه مسموع في الموقع. أيهما أفضل صلاتي في الجامع المجاور للعمل أم صلاتي في الموقع على قطعة من أرضه نجعلها- نحن العاملون- مصلى في الموقع؟
مع العلم بأن صلاتي في الجامع لا تضر عملي، وما تعلمته هو أن صلاة الجماعة واجبة، لكن في المقابل صلاتي في الموقع قد تكون أفضل للعمل- مجرد أفضلية- كما أن هذا قد يُشجع آخرين على الجماعة، وينظم أمر صلاتهم وقت العمل.
ثم ما حكم هذا المكان المصلى بعد تسليم الموقع للجهة المالكة؟ هل يصبح وقفًا لا يستعمل في غير ذلك؟ لأننا كنا قد جعلناه مفتوحًا لمن أراد أن يصلي. مع العلم بأن الجهة المالكة أوربية وهي غير مسلمة فيما يظهر.

 

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه؛ أما بعد:
فإن القول في هذا مبني على القول في اشتراط المسجد للجماعة، وفي الموازنة بين الطاعات القاصرة على صاحبها، والطاعات المتعدية إلى الغير:
أما الأولى: ففيها روايتان في مذهب أحمد، أصحهما جواز ذلك، قال المرداوي رحمه الله: «وله فعلها- أي: صلاة الجماعة- في بيته في أصحِّ الروايتين. والرواية الثانية: ليس له فعلها في بيته». انتهى(1).
والذي عليه الجمهور(2) أن المسجد لا يشترط للجماعة ما لم يترتب على ذلك تعطيل المساجد، فصلاة الجماعة هي من آكد السنن وأعظم الشعائر الإسلامية وأفضل القرب الدينية؛ لما ورد فيها من الترغيبات، وفي الباب كما تعلم قول النبي صلى الله عليه وسلم: «صَلَاةُ الْـجَمَاعَةِ تَفْضُلُ صَلَاةَ الْفَذِّ بِسَبْعٍ وَعِشْرِينَ دَرَجَةً»(3). وقد فهمه بعضُ أهل العلم على أن صلاةَ الجماعة أيًّا كانت في البيت أو السوق فهي تفضل صلاة المنفرد بذلك الفضل؛ لأن في بعض روايات الحديث جاءت الجماعة نكرَة، مما يفيد أنه أي جماعة كانت في فلاة أو بيت أو سوق أو مسجد فهي تفضل صلاة المنفرد.
قال بدر الدين العيني الحنفي في «عمدة القاري شرح صحيح البخاري»: «فإن قلت: يقتضي قوله: «في بيته وفي سوقه» أن الصلاة في المسجد جماعةً تزيد على الصلاة في البيت وفي السوق، سواء كانت جماعةً أو فرادى، وليس كذلك. قلت: هذا خارج مخرج الغالب؛ لأن من لم يحضر الجماعة في المسجد يصلي منفردًا في بيته أو سوقه، وأما الذي يصلي في بيته جماعة فله الفضل فيها على صلاته منفردًا بلا نزاع»(4).
وقد أخرج البخاري عن عتبان بن مالك الأنصاري رضي الله عنه قال: كنت أصلِّي لقومي بني سالم، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: إني أنكرت بصري، وإن السيولَ تحولُ بيني وبين مسجد قومِي فلوددت أنك جئت فصليت في بيتي مكانًا حتى أتَّخِذَه مسجدًا. فقال: «أَفْعَلُ إِنْ شَاءَ الله»(5).
أما الثانية: فإن أعمال الخير المتعدية إلى الغير تفضل أعمال الخير القاصرة على صاحبها، فإذا كانت صلاتك جماعة بعُمَّالك في موقعك ستعين سائر العاملين على الصلاة، وتحثهم على أدائها في ميقاتها، فيثوب تارك الصلاة عن غيه، وينشط المتكاسل عن أدائها، فيخرج عن كسله، ويؤديها في ميقاتها بدلًا من أن ينقرها إذا رجع إلى بيته! فالذي يظهر أن هذا يرجح عن الذهاب إلى المسجد من هذه الناحية.
وفي الباب أيضًا ملحظ آخر: وهو حق صاحب العمل في وقت العامل، وقد بذل له الأجر في مقابل العمل، فكل جزء من أجزاء الأجر مقابل بجزء من أجزاء العمل، لا يخرج من ذلك إلا الضروري في باب الديانة، كوقت أداء الفريضة، أو الضروري في باب المعيشة، كنتناول طعام أو قضاء الحاجة ونحوه، فللمستأجر أن يمنع أجيره من الذهاب إلى المسجد البعيد، وليس له أن يمنعه من الصلاة جماعة في مكان عمله.
وقد جاء في «أسنى المطالب في شرح روض الطالب» لشيخ الإسلام زكريا الأنصاري قوله: «ولا يلزم المستأجر أن يُمكِّن الأجيرَ الخاصَّ من الذهاب إلى المسجد للجماعة، إن كان المسجدُ بعيدًا، وإن كان قريبًا ففيه احتمال، إلا أن يكون الإمامُ ممن يُطيل الصلاة، فلا يلزمه قطعًا»( 6).
وفي «حاشية الجمل على شرح منهج الطلاب» لسليمان بن عمر الجمل قال: «وبحث الأذرعي أنه لا يلزم المستأجرَ تمكينُه من الذهاب إلى المسجد للجماعة في غير الجمعة، قال: ولا شك فيه عند بُعدِه أو كون إمامه يطيل الصلاة»(7). اهـ. والله تعالى أعلى وأعلم.

__________________

(1) «الإنصاف» (2/213).

(2) جاء في «حاشية ابن عابدين»(2/45) من كتب الحنفية (وإن صلى أحد في البيت بالجماعة لم ينالوا فضل جماعة المسجد وهكذا في المكتوبات كما في المنية وهل المراد أنها سنة كفاية لأهل كل مسجد من البلدة أو مسجد واحد منها أو من المحلة؟ ظاهر كلام الشارح الأول. واستظهر ط الثاني. ويظهر لي الثالث، لقول المنية: حتى لو ترك أهل محلة كلهم الجماعة فقد تركوا السنة وأساءوا. اهـ. وظاهر كلامهم هنا أن المسنون كفاية إقامتها بالجماعة في المسجد، حتى لو أقاموها جماعة في بيوتهم ولم تقم في المسجد أثم الكل).
وجاء في «مواهب الجليل » (2/84) من كتب المالكية (من صلى في جماعة في مسجد أو غير مسجد لم يعدها في جماعة إلا تكون التي صلى في جماعة بمكة أو المدينة أو بإيلياء ثم دخل المسجد الحرام أو مسجد النبي – صلى الله عليه وسلم – أو بيت المقدس فوجدهم في الصلاة أو أقيمت عليه تلك فإنه يؤمر أن يصلي معهم، وذلك لفضل الصلاة فيها على غيرها).
وجاء في «المجموع شرح المهذب» (4/185) من كتب الشافعية (فإذا قلنا إنها فرض كفاية فامتنع أهل بلد أو قرية من إقامتها قاتلهم الإمام ولم يسقط عنهم الحرج إلا إذا أقاموها بحيث يظهر هذا الشعار فيهم ففي القرية الصغيرة يكفي إقامتها في موضع واحد وفي البلدة والقرية الكبيرة يجب إقامتها في مواضع بحيث يظهر في المحال وغيرها فلو اقتصروا على إقامتها في البيوت فوجهان (أصحهما) وهو قول أبي اسحق المروزي لا يسقط الحرج عنهم لعدم ظهورها (والثاني) يسقط إذا ظهرت في الأسواق).
وجاء في «المغني» (2/131) (ويجوز فعلها في البيت والصحراء، وقيل: فيه رواية أخرى: أن حضور المسجد واجب إذا كان قريبا منه).

(3) متفق عليه: أخرجه البخاري في كتاب «الأذان» باب «فضل صلاة الجماعة» حديث (645) ، ومسلم في كتاب «المساجد ومواضع الصلاة» باب «فضل صلاة الجماعة» حديث (650) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.

(4) «عمدة القاري شرح صحيح البخاري» (5/167).

(5) أخرجه البخاري في كتاب «الصلاة» باب «المساجد في البيوت» حديث (425).

(6) «أسنى المطالب» (2/436).

(7) «حاشية الجمل» (2/4).

تاريخ النشر : 26 ديسمبر, 2017
التصنيفات الموضوعية:   02 الصلاة

فتاوى ذات صلة:

Send this to a friend