التحلق يوم الجمعة لإلقاء درس قبل الخطبة والصلاة

لقد طلب مني أن أخطب الجمعة في إحدى الولايات، واشتُرِط عليَّ أن أقوم بالخطبة على الوجه التالي:

أولًا إعطاء درس باللغة الإنجليزية، وليس خطبة، ثم يؤذن المؤذن، وأبدأ بعدها بإلقاء خطبة مقتضبة باللغة العربية؛ اعتقادًا من المسئولين هناك أن الخطبة لا تجوز باللغة الإنجليزية، ومع علمي أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن التَّحلُّق قبل خطبة الجمعة ولكن لكثرة عدد المُصلِّين هناك وحاجتهم إلى التوعية الدينيَّة، فهل لنا مخرج في ذلك؟

 

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه و من والاه؛ أما بعد:
فإن التحلق يوم الجمعة لإلقاء درس قبل الخطبة والصلاة من مسائل النَّظَر بين أهل العلم، فمنهم من منعه بإطلاق؛ لما أخرجه أبو داود في «سننه»: عَنْ عمرو بن شعيبٍ عن أبيه عن جَدِّه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم  نهى عن الشراء والبيع في المسجد، وأن تُنشَد فيه ضَالَّةٌ، وأن يُنْشَدَ فيه شِعْرٌ، ونَهَى عن التَّحَلُّقِ قبل الصَّلاة يومَ الجمعة(1).
قال الإمام البغوي : في «شرح السنة»: «وفي الحديث كراهية التحلُّق والاجتماع يوم الجمعة قبل الصلاة لمذاكرة العلم، بل يشتغل بالذكر والصلاة والإنصات للخطبة، ثم لا بأس بالاجتماع والتحلُّق بعد الصلاة في المسجد وغيره»(2).
وقال الشيخ شمس الحق العظيم آبادي : في «عون المعبود شرح سنن أبي داود»: «الحلقة والاجتماع للعلم والمذاكرة، قال الخطابي: إنما كره الاجتماع قبل الصلاة للعلم والمذاكرة، وأمر أن يشتغل بالصلاة، وينصت للخطبة والذكر، فإذا فرغ منها كان الاجتماع والتحلُّق بعد ذلك»(3).
وقد سئلت اللَّجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء ببلاد الحرمين عن حكم إلقاء الوعظ والإرشاد يوم الجمعة قبل أداء صلاة الجمعة؟ فكان جوابها: لا ينبغي إلقاء المواعظ والدروس يوم الجمعة قبل الجمعة لما روى أبو داود والنَّسائي والتِّرمذي: عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم  نهى عن التحلُّق قبل صلاة الجمعة.
وحمل بعض أهل العلم ذلك على أن النهي عن التحلق إنما هو عما كان من ذلك لشئون الدُّنيا وليس لطلب العلم أو تعليمه، وحمل بعضهم ذلك على ما كان بقرب الإمام بحيث يشغل الاجتماع فيها عن الاستماع للخطبة، أو على ما يتضرر به النَّاس، فلم ير حرجًا في هذا التحلق بعد الفجر لعدم وجود من يقصد الجمعة في الوقت.
وأيًّا كان الأمر فإن الجمهور(4) قد حملوا هذا النهي على الكراهة، وذلك لأنه ربما قطع الصفوف مع كونهم مأمورين بالتبكير يوم الجمعة، والتراص في الصفوف الأوَّل فالأول، والكراهة تزول بالحاجة كما هو مقرر، بل قال الخطيب البغدادي في «الفقيه والمُتَّفقه»: «وأستحبُّ للفقيه ألا يخلَّ بعقد الحلقة في المسجد الجامع في أيام الجمعات… ثم ذكر حديث النهي عن التحلق قبل الصلاة يوم الجمعة وقال: هذا الحديث محمول على أن تكونَ الحلقة بقرب الإمام، بحيث يشغل الكلام فيها عن استماع الخطبة. فأما إذا كان المسجد واسعًا والحلقة بعيدة من الإمام بحيث لا يدركها صوته فلا بأس بذلك، وقد رأيت كافة شيوخنا من الفقهاء والمحدثين يفعلونه، وجاء مثله عن عدة من الصحابة والتابعين ».اهـ(5).
بل قال في كتابه «الجامع لأخلاق الراوي»: «فأما من بَعُدَ منه- يعني الإمام- بحيث لا يبلغه صوته فتجوز له المذاكرة بالعلم في وقت الخطبة»(6). اهـ.
وحمل الشيخ ابن عثيمين النهي الوارد في ذلك على ما يتأذى به النَّاس لضيق المسجد وقرب التحلُّق من وقت حضور النَّاس للخطبة، فقد سئل: ما حكم التحلق في المسجد قبل صلاة الجمعة؟ فأجاب : بقوله: ورد عن النبي عليه الصلاة والسَّلام أنه نهى عن التحلُّق يوم الجمعة، وذلك لأنَّ التحلُّق يوم الجمعة يؤدي إلى تضييق المسجد على المُصلِّين القادمين إليه، لاسيما إذا كانت الحلق قريبة مع كثرة الحضور وكان المسجد ضيقًا، فإن ضررها واضح جدًّا، أما إذا لم يكن فيها محذور فإنه لا محظور فيها؛ لأن الشَّرع إنما ينهى عن أشياء لضررها الخالص أو الغالب.
وحمل الشيخ ابن جبرين حفظه الله الحديث على التحلُّق في المساجد للحديث في أمور الدُّنيا، فقد سئل : عما ورد من النهي عن التحلق يوم الجمعة قبل الصلاة فما وقت هذا التحلق للجميع؟ وهل النهي للتحريم أم للكراهة؟ كان الصحابة يأتون يوم الجمعة من أماكن متفرقة من أقصى المدينة وأدناها ووسطها وشمالها وجنوبها وشرقها وغربها، ويجتمعون في المسجد النبوي كلهم، فإذا جاءوا وإذا بعضهم بعيد العهد بالبعض الآخر؛ فلابد أنهم يتساءلون ويتناجَون ويبحثون في بعض شئونهم فيتحلقوا، يكون هناك حلقة خمسة أو عشرة وهنا حلقة وهنا حلقة وهنا حلقة.
يخرج النبي صلى الله عليه وسلم  للخطبة وهم لا يزالون حلقًا يتناجون فيها؛ فلذلك نهى عن التحلق يوم الجمعة قبل الصلاة، هذا هو الأصل، فليس معناه التحلق الذي هو حلقات طلب علم، فإن ذلك لا يدخل فيه بقوله: إنه طلب علم. وأصل تلقي العلم في يوم الجمعة وفي غيرها يكون في المساجد سواء حلقات أو صفوفًا، ولا حرج في ذلك إن شاء الله إذا كان لتلقي الفوائد.
وسئل في مقام آخر عن حكم التحلق في المسجد يوم الجمعة لقراءة قرآن، أو سماع أحاديث هل يدخل في ضمن النهي عن التحلق قبل الجمعة؟ لا يدخل، الذي جاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم  نهى عن التحلق يوم الجمعة قبل الصلاة، أو التحلق للتحدث. ولعل مما يؤيد هذا ما رواه أبو عوانة في «المستخرج»، وابن أبي شيبة في «المصنف»، والحاكم في «المستدرك» وصححه، وأقره الذهبي، من طرق: أن أبا هريرة رضي الله عنه  كان يجيء قبل الصلاة، فيحدث النَّاس(7). وفي رواية «المصنف»: كان أبو هريرة يحدثنا يوم الجمعة حتى يخرج الإمام(8).
ومن ناحية أخرى فإن التحلق يختلف عن الجلوس صفوفًا للفارق بينهما، ولاختلاف ما يترتب عن كل منهما؛ إذ يحصل بالتحلق من التشويش والفوضى واضطراب الصفوف ما لا يحصل بالجلوس صفوفًا.
والخلاصة: أن هذا الذي تذكر ليس هو الوضع الأمثل، لما في ذلك من شغل المجتمعين لصلاة الجمعة عن الذكر والتلاوة، وصلاة النافلة، وتهيئة الصفوف، وإعداد النفوس لاستماع الخطبة، والإصغاء إليها.
فالوضع الأمثل أن يشتغل النَّاس يوم الجمعة بالصلاة والإنصات للخطبة والذكر، ولكن إذا كان هذا هو ما درج عليه المصلون في هذا الموضع، وكان ردهم إلى الأمثل عسير فلا أرى في ذلك حرجًا؛ لأن المسألة من مسائل النظر، واجعل النَّاس يجلسون صفوفًا وليس على هيئة الحلقة خروجًا من النهي الوارد في هذا الحديث. والله تعالى أعلى وأعلم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أخرجه أبو داود في كتاب «الصلاة» باب «التحلق يوم الجمعة قبل الصلاة» حديث (1079)، والترمذي في كتاب «الصلاة» باب «ما جاء في كراهية البيع والشراء وإنشاد الضالة والشعر في المسجد» حديث (322)، والنسائي في كتاب «المساجد» باب «النهي عن البيع والشراء في المسجد» حديث (714)، وقال الترمذي: «حديث حسن».
(2) «شرح السنة» (3/374).
(3) «عون المعبود» (3/294).
(4) جاء في «نيل الأوطار» من كتب الزيدية (2/184-186): «أما التحلق يوم الجمعة في المسجد قبل الصلاة فحمل النهي عنه الجمهور على الكراهة، وذلك لأنه ربما قطع الصفوف مع كونهم مأمورين بالتبكير يوم الجمعة والتراص في الصفوف الأول فالأول».
(5) «الفقيه والمُتَّفقه» (2/272).
(6) «الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع» (2/63).
(7) أخرجه أبو عوانة في «مستخرجه» (3/64) حديث (4201).
(8) أخرجه ابن أبي شيبة في «مصنفه» (1/468) حديث (5411).

تاريخ النشر : 26 ديسمبر, 2017
التصنيفات الموضوعية:   02 الصلاة

فتاوى ذات صلة:

Send this to a friend