لقد قرأتُ في الصحف فتوى نُسبت إلى فضيلة مفتي الجمهورية، مُفادها: أنه إذا جاء يوم العيد وكان موافقًا ليوم جمعة وصلى النَّاس صلاةَ سنة العيد فإنه يجوز عدمُ صلاة فرض الجمعة، شريطة أن يكونَ صلى المسلم سنة العيد. فهل يجوز الافتداء بصلاة الجمعة وهي من الصَّلَوات المكتوبة على المسلم لمجرد أن يُصلي المسلم سنة العيد؟ وجزاكم الله عنا خيرًا.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه و من والاه؛ أما بعد:
فإن هذه المسألة من مسائل النَّظَر بين أهل العلم، وما أفتى به صاحب الفضيلة المفتي صحيح، وهو مُخرَّج على قول الحنابلة(1)، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيميَّة :، ذلك أن أهل العلم في هذه المسألة بعد اتِّفاقهم على استحباب حضور العيد والجمعة اختلفوا فيمن حضر العيد: هل يُرخَّص له في ترك الجمعة، أم لا؟ على ثلاثة أقوال:
القول الأول: الرُّخصة لأهل البر والبوادي في ترك الجمعة، ويصلونها ظهرًا. وهو قول الشَّافعي(2)، ورواية عن مالك(3).
قال الشَّافعي :: «وإذا كان يوم الفطر يوم الجمعة صلَّى الإمام حين تحلُّ الصَّلاة، ثم أذَّن لمن حضره من غير أهل المِصْر في أن ينصرفوا إن شاءوا إلى أهليهم ولا يعودون إلى الجمعة». وقال: «ولا يجوز هذا لأحدٍ من أهل المِصْر أن يَدَعُوا أن يُجمِّعوا إلا مِن عذرٍ يجوز لهم به تَرْك الجمعة، وإن كان يومَ عيدٍ»(4).
القول الثَّاني: إن الجمعة واجبة على كلِّ من صلى العيد. وهو قول أبي حنيفة ورواية عن مالك واختيار ابن حزم وابن المنذر وابن عبد البر(5).
قال أبو حنيفة: «عيدان اجتمعا في يومٍ واحد، فالأوَّل سنة، والآخر فريضة، ولا يُترك واحدٌ منهما»(6).
وروى ابن القاسم عن مالك(7) أن ذلك- ترك الجمعة- غير جائز، وأن الجمعة تلزمهم على كلِّ حال.
القول الثالث: أن من شهد العيد سقطت عنه فرضيَّة الجمعة، لكن على الإمام أن يُقيم الجمعة ليشهدها من شاء شهودَها، ومن لم يشهد العيد. وهو مذهب الحنابلة(8)، واختيار شيخ الإسلام ابن تيميَّة.
قال عبد الله بن أحمد: «سألتُ أبي عن عيدين اجتمعا في يومٍ: يُترك أحدهما؟ قال: لا بأس به، أرجو أن يُجزئه»(9).
فما أفتى به فضيلته صحيحٌ، وبالمناسبة ليس هو مِن أوَّل من أفتى بذلك من المفتين المصريين، فقد سبقه إلى ذلك الشيخ عطيَّة صقر، فقد سُئل في هذه المسألة، فاستعرض أقوال أهل العلم فيها ثم قال: فالموضوع خلافي، لكن القول بالاكتفاء بصلاة العيد عن صلاة الجمعة أقوى، ويستوي في ذلك أهل القرى والأمصار، والإمام وغير الإمام، فالمقصود من الصلاتين قد حصل، وهو صلاة ركعتين مع الخطبة، واجتماع النَّاس لأداء صلاة الجماعة وسماع الموعظة، فبأيٍّ من الصلاتين حصل ذلك كفى. واللهُ تعالى أعلى وأعلم.
ــــــــــــــــــــــــــ
(1) جاء في «المغني» من كتب الحنابلة (2/265-266): «فصل: وإن اتفق عيد في يوم جمعة، سقط حضور الجمعة عمن صلى العيد، إلا الإمام، فإنها لا تسقط عنه إلا أن لا يجتمع له من يصلي به الجمعة. وقيل: في وجوبها على الإمام روايتان وممن قال بسقوطها الشعبي، والنخعي، والأوزاعي. وقيل: هذا مذهب عمر ، وعثمان ، وعلي ، وسعيد ، وابن عمر ، وابن عباس ، وابن الزبير».
(2) جاء في «الأم» (1/274): «(قال الشافعي): «وإذا كان يوم الفطر يوم الجمعة صلى الإمام العيد حين تحل الصلاة ثم أذن لمن حضره من غير أهل المصر في أن ينصرفوا إن شاءوا إلى أهليهم، ولا يعودون إلى الجمعة والاختيار لهم أن يقيموا حتى يجمعوا أو يعودوا بعد انصرافهم إن قدروا حتى يجمعوا وإن لم يفعلوا فلا حرج إن شاء الله تعالى».
(3) جاء في «حاشية الدسوقي» من كتب المالكية (1/390-391): «مطرف وابن وهب و ابن الماجشون القائلون إن الإمام إذا أذن لأهل القرى التي حول قرية الجمعة بتخلفهم عن الجمعة حين سعوا وأتوا لصلاة العيد فإن إذنه يكون عذرا لهم».
(4) «الأم» (1/239).
(5) جاء في «المحلى» من كتب الظاهرية (3/303-304): «مسألة: وإذا اجتمع عيد في يوم جمعة: صلي للعيد، ثم للجمعة ولابد، ولا يصح أثر بخلاف ذلك؟».
وجاء في «المجموع» من كتب الشافعية (4/358-359): «وقال أبو حنيفة: لا تسقط الجمعة عن أهل البلد، ولا أهل القرى».
(6) «بدائع الصنائع» للكاساني (1/275) نقلًا عن «الجامع الصغير».
(7) جاء في «المغني» من كتب الحنابلة (2/265-266): «وقال أكثر الفقهاء تجب الجمعة؛ لعموم الآية، والأخبار الدالة على وجوبها ولأنهما صلاتان واجبتان، فلم تسقط إحداهما بالأخرى، كالظهر مع العيد».
(8) جاء في «المغني» من كتب الحنابلة (2/265-266): «فصل: وإن اتفق عيد في يوم جمعة، سقط حضور الجمعة عمن صلى العيد، إلا الإمام».
وجاء في «المبدع» من كتب الحنابلة (2/169-171): «إذا وقع العيد يوم الجمعة فاجتزى بالعيد، وصلى ظهرا، جاز) لأنه ـ عليه السلام ـ صلى العيد، وقال: من شاء أن يجمع فليجمع. رواه أحمد من حديث زيد بن أرقم، وحينئذ تسقط الجمعة إسقاط حضور لا وجوب، فيكون حكمه كمريض، لا كمسافر ونحوه، عمن حضر العيد مع الإمام عند الاجتماع، ويصلي الظهر كصلاة أهل الأعذار».
(9) «مسائل أحمد بن حنبل رواية ابنه عبد الله» (1/130).