قضية الفيلم المسيء إلى النبي ﷺ وتداعياته إسلاميًّا ودوليًّا، وبحكم إقامتكم في الولايات المتحدة، هل من تعليق؟
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه؛ أما بعد:
فلا شكَّ أنه يسوء أمةَ الإسلام على امتداد المعمورة في المشارق والمغارب أن ينال أحدٌ من الرسول ﷺ، أو أن يتطاول على مقامه الشريف، بل ويسوءها ذلك بالنسبة لجميع الأنبياء والمرسلين؛ فإنهم صلوات الله وسلامه عليهم في أصل العصمة والحرمة سواء.
فأمة الإسلام تغار لإبراهيم ولموسى وعيسى كما تغار لمحمد صلوات الله وسلامه عليهم، فهم جميعًا أنبياء الله، بل ومن أولي العزم من الرسل، وإذا كانت العلمانية قد نجحت في نزع القداسة في كثير من المجتمعات الغربية عن الحرمات الدينية، وعن حملة الرسالات السماوية في وجدان مجتمعاتهم، فلم ولن تنجح في شيء من ذلك في ديار الإسلام.
والواقع المشهود خير دليل على ذلك، ومن حقِّ الأمة أفرادًا وشعوبًا ومنظمات وتجمعات وحكومات أن تعبِّر عن استيائها، وأن تجهر بالقول في ذلك، وأن تُرسل صيحات النكير عالية مدوية ليشهدها العالم كله، ولتنقلها أجهزة إعلامه السيارة، ومن ذلك وقفات الاحتجاج أمام سفارات الدول المعنية، على أن ينضبط ذلك كله بقواعد الحق والعدل، وما تعارف العالم على اعتباره من الأعراف والمواثيق المحلية والدولية.
فليس من الإسلام في شيء أن تنال هذه التظاهرات والاحتجاجات مقارَّ البعثات الدبلوماسية تخريبًا أو تدميرًا، أو أن تنال أحدًا من أعضائها تقتيلًا أو ترويعًا، وقد حكم لهم صاحب الرسالة ولأمثالهم من سائر المستأمنين داخل ديار الإسلام بالأمان والعصمة، وفي مقدمتهم السفراء وأعضاء البعثات الدبلوماسية.
إن للبعثات الدبلوماسية في بلاد المسلمين حرمةً تقترب من المساجد في الصيانة والعصمة، وعدم المساس بها، فهم في ذمة الإسلام، ورعاية أئمة المسلمين، وأيُّ مساس بها يسوء صاحبَ الرسالة التي تحشد كل هذه الجهود لنصرته، وإذا كانت البعثة غير مرغوب فيها فيكون الاحتجاج على الحكومات المحلية لإنهاء عملها وإبلاغها مأمنها، وليس بالاعتداء عليها أو ترويعها، لا يستقيم أمر العالم إلا بذلك.
وقد قال النبيُّ ﷺ لرسولَي مسيلمة اللذين أعلنا أمامه إيمانهما بمسيلمة: «لَوْلَا أَنَّ الرَّسُلَ لَا تُقْتَلُ لَضَرَبْتُ أَعْنَاقَكُمَا»(1)، بل ومن جهة المصالح البحتة؛ فإن لكل دولة من الدول بعثاتها الدبلوماسية المنتشرة حول العالم، فالعدوان على سفارة محلية لدولة أجنبية يجعل سفاراتنا في الخارج هدفًا لحملات الانتقام والتنكيل، فالسفارات أعصاب مكشوفة لكل دولة على وجه الأرض؛ ولهذا تعارفت البشرية على حمايتها وتوفير الأمان لأعضائها.
ومن ناحية أخرى فإن كثيرًا من هذه الأعمال المسيئة إذا نظر إليها في محيطها المحلي تجد أصحابها أقزامًا نَكِرات ومجاهيل في مجتمعاتهم، لا يعرفهم قومهم، ولا يأبه لهم أحدٌ منهم، ولا يطمعون أن ينالوا هذا الاهتمام، وأن يمسوا حديثَ الناس في الفضائيات العالمية، وتُسعَّر من أجلهم حرائق، وتوقد من أجلهم نيرانُ فتنٍ.
ومن ناحية ثالثة، فقد تقرَّر إسلاميًّا وحقوقيًّا أنه لا يؤخذ بَرِيءٌ بظِنِّينٍ: ﴿أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى * وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى * أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى * وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى * ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى﴾ [النجم: 36 – 41].
فإذا تولى كِبر عمل من الأعمال فردٌ أو قلةٌ من الناس فلا يُعمَّم حكمه على عموم الناس في دولهم جميعًا أفرادًا وحكومات، فبالعدل قامت السموات والأرض، فكما نقول للعالم: لا تحاسبوا الإسلام بشذوذ قلة منحرفة قد انتسبت إليه، ينبغي أن نُطبِّق نفسَ المنطق ونقف نفس الموقف عندما نتعامل مع الآخرين، ومرة أخرى بالعدل قامت السموات والأرض.
صدقوني، لعل من تولى كبر هذه الفتنة يفرك الآن يديه مغتبطًا بهذه التداعيات؛ فقد حقَّقت له من الدعاية بالمجان ما لم يكن يحلم بعُشر معشاره لو أنفق في سبيلها المليارات.
لقد أسهمنا نحن بانفعالنا في توسيع رقعة هذه الفيلم الحقير والدعاية له، عندما نشرنا مقاطع منه من خلال آلياتنا الإعلامية فأدخلناه من خلالها إلى بيوتنا بأيدينا، وروجت له من حيث لا نشعر فضائياتنا وصحائفنا الإلكترونية وغير الإلكترونية.
وهي العمل المحترق فنيًّا، والمفترى تاريخيًّا، والساقط الحقير خلقيًّا، تولى كبره نكرة من النكرات، وساقط من الساقطين، ولعل الأمة لو تجاوزت هذا العمل وغضَّت الطَّرْفَ عنه لَوُئِدَ في مهده ولشرق صاحبه بريقه ومات كمدًا وغيظًا.
نحن نعيش في الولايات المتحدة، ما شعرنا لهذا العمل بدويٍّ، ولا وجدنا له ضجيجًا ولا صدًى من حولنا، وما جعله حديث الناس إلا تناوُل الأمة له في الشرق، فكانت بذلك ظهيرًا على نفسها وعلى نبيِّها وهي لا تشعر.
وبطبيعة الحال لا نقول بتعميم التجاهل، فهناك من الأعمال ما لا يُمكن تجاهله، ولكن ينبغي أن يرجع في التمييز بين هذا وذاك إلى أهل الحلِّ والعقد، وإلى الذين يُحسنون النظر في هذه المسائل التي تتدافع فيها المصالح والمفاسد، ويُجيدون الغوصَ في بواعثها ودقائقها ويُحسنون تقديرَ مصالحها ومفاسدها.
إن هذه الفتنةَ كما أنها ليست هي الأولى فلن تكون هي الأخيرة، فإن ذلك ديدن المبطلين الشانئين على مدار تاريخ الرسل والرسالات، كما قال تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ * وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ﴾} [الأنعام: 112، 113].
وسوف يظلُّ رسولُ الله ﷺ بعصمة الله له سماء لا تُطاولها سماء، وسراجًا منيرًا في دياجير الحياة والأحياء.
وإن من واجب أهل البصيرة أن يفطنوا لما يراد بهم وينسج لهم في الخفاء.
إن تشويهَ الربيع العربي عامة والثورة المصرية خاصة، ودفع شبابها إلى ردود أفعال مستنكرة يسعر العداوة بينها وبين المجتمع الدولي، ويصبح ذلك عبئًا جديًّا على قيادتها التي تحاول أن تضمد الجراح، وأن تمخر بسفينة الوطن في هذا البحر اللُّجي الحافل بالعواصف والأنواء.
إن هذا كله لا ينبغي أن يُحجَب عن بصيرة الربانيين والغيورين، ولا أن يفوتهم تدبره حتى لا يستخفَّهم الذين لا يوقنون، ولا يصبحوا دميةً بأيدي العابثين بالأمم والرسالات، ومفجري الصراع بين الثقافات والحضارات.
إن من الأعمال الإيجابية التداعي إلى تبنِّي قانون دوليٍّ لحماية المقدسات الدينية، وتجريم التطاول على الرموز الدينية، وفي طليعتها الأنبياء والمرسلون، وتضمين ذلك في الدساتير المحلية، خاصة بالنسبة للدول التي تعيش مرحلة المخاض في صياغة هذه الدساتير وإعادة كتابتها، ومن هذه الأعمال الإيجابية كذلك مضاعفة الجهود في التعريف بالرسالة والرسول؛ إقامة للحجة وإبراء للذمة؛ فإن الناس أعداء لما جهلوا قال تعالى: ﴿بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ﴾ [يونس: 39].
ولعل هذه المحنة تنقلب بفضل الله ثم بجهود الصادقين الغيورين إلى منحة، تنعكس آثارها الطيبة على الأمة والملة.
وأخيرًا فإننا لنُثمِّن موقف القيادات القبطية التي أعلنت براءتها من هذا العمل، وإدانتها لأصحابه، ونأمل من غيرهم أن يحذو حذوهم، وأن يضربوا على أيدي سفهائهم، وأن يحذروا من زارعي الألغام في بيت الوطن الكبير، والتي يؤدي انفجارها إلى احتراق الوطن برمته بأقباطه ومسلميه.
واللهَ نسأل أن يحمي أمتنا من كل سوء، وأن يدفع عنها كل مكروه، وأن يرزقها بصيرة الربانيين وفراسة المؤمنين، والله من وراء القصد، وهو الهادي إلى سواء السبيل. والله تعالى أعلى وأعلم.
__________________
(1) أخرجه أبو داود في كتاب «الجهاد» باب «في الرسل» حديث (2761)، والحاكم في «مستدركه» (2/155) حديث (2632)، من حديث نعيم بن مسعود بن عامر، وقال الحاكم: «هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه».