ما حكمُ قول: «يا لهوي»

ما حكمُ قول: «يا لَـهْوي»؟

 

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه و من والاه؛ أما بعد:
فإن الألفاظَ قوالبُ للمعاني، فلا عبرةَ بلفظٍ لم يقصد صاحبُه إلى معناه، ولا عبرة لمعنًى ظلَّ حبيسًا في النفس لم يُترجم إلى قولٍ أو عمل.
وفي خصوص هذه الكلمة لا يخفى أنها من الكلمات العامية التي يُستفصل من قائلها عن مضمونها، فإن كانت تحمل معنى الجَزَع والتسخُّط على القَدَر كانت مما يُنهى عنه، وإن كانت تحمل مُجرَّد التوجُّع والتعبير عن التألُّم كما يتأوَّه المريض من الألم بقول «آه» فلا بأس بها، ولا تثريب على قائلها؛ لأن عدمَ تحمُّل الألم الزائد شيءٌ جِبِلِّيٌّ، وقد ثبت عن عدد من الصَّحابة التعبيرُ عن الألم، كقول أبي بكر: إ«ني وَجِعٌ»(1). وقول عائشة: «وارأساه»(2). بل وقول أيوب عليه السلام  شاكيًا: ﴿وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ﴾ [الأنبياء: 83]. وبذلك بوَّب الإمام البخاريُّ في «صحيحه» (باب: قول المريض: إني وجع، أو: وارأساه، أو: اشتدَّ بي الوجع، وقول أيوب ﴿أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ﴾».
هذا وقد كرَّه بعضُ أهل العِلْمِ التأوُّهَ والشكوى التي على سبيل الإخبار وإن لم يكن فيها تسخُّط. وذكر عن الإمام أحمد أنه كان يئنُّ في مرضه فبلغه عن طاوس أنه قال: يكتب الملك كلَّ شيء حتى الأنين. فلم يئن أحمد حتى مات :(3).
وكرهه أيضًا جماعةٌ من الشافعية(4)، ولكن ردَّ ذلك غيرُ واحدٍ من أئمتهم، نذكر منهم النوويُّ؛ فقد قال: «هذا ضعيفٌ أو باطل، فإن المكروهَ ما ثبت فيه نهيٌ مقصودٌ، وهذا لم يثبت فيه ذلك»(5). ثم احتجَّ بحديث عائشة في الباب، وهو الحديث الذي رواه الإمام أحمد وابن ماجه وغيرُهما عن عائشة ل قالت: رجع إليَّ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم  ذات يوم من جِنازة من البقيع فوجدني وأنا أجد صداعًا وأنا أقول: وارأساه. قال: «بَلْ أَنَا يَا عَائِشَةُ وَارَأْسَاهُ»(6). وقال النوويُّ: «ولعلهم أرادوا بالكراهة خلافَ الأولى؛ فإنه لا شَكَّ أن اشتغالَه بالذِّكر أولى»(7 ). انتهى. فيُمكن حَمْلُ قولِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم  لعائشة: «بَلْ أَنَا يَا عَائِشَةُ وَارَأْسَاهُ» على أنه قاله تسليةً لها أو إخبارًا بأن به مثلَ الذي بها، ولم يقل ذلك تَشَكِّيًا؛ لأنه لم يقله ابتداءً، إنما قاله مجاراةً لها. قال القُرْطُبِيُّ: اختلف النَّاسُ في هذا الباب، والتحقيق أن الألمَ لا يقدر أحدٌ على رَفْعه، والنفوسُ مجبولةٌ على وجدان ذلك، فلا يُستطاع تغييرُها عما جُبلت عليه، وإنما كُلِّف العبدُ ألا يقع منه في حال المصيبة ما له سبيلٌ إلى تَرْكه كالمبالغة في التأوُّه والجَزَع الزائد، كأن من فعل ذلك خرج عن معاني أهل الصَّبْر، وأما مُجرَّد التشكِّي فليس مذمومًا حتى يحصلَ التسخط للمقدور، وقد اتَّفقوا على كراهة شكوى العبدِ ربَّه، وشكواه إنما هو ذِكْرُه للناس على سبيل التضجُّر. والله أعلم. انتهى. وقال الحافظ ابن حجر مُعلِّلًا قولَ بعضِ العلماء بالكراهة: «ولعلهم أخذوه بالمعنى من كونِ كثرة الشكوى تدلُّ على ضعف اليقين وتُشعر بالتسخُّط للقضاء وتُورث شماتةَ الأعداء، وأما إخبارُ المريضِ صديقَه أو طبيبه عن حاله فلا بأس به اتِّفاقًا»(8). واللهُ تعالى أعلى وأعلم.
ــــــــــــــــــــــــــ
(1) فقد أخرج الطبراني في «الكبير» (1/62) حديث (43) من حديث عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه  قال: دَخَلْتُ على أبي بَكْرٍ رضي الله عنه  أَعُودُهُ في مَرَضِهِ الذي تُوُفِّيَ فيه فَسَلَّمْتُ عليه وَسَأَلْتُهُ: كَيْفَ أَصْبَحْتَ؟ فَاسْتَوَى جَالِسًا. فقلت: أَصْبَحْتَ بِحَمْدِ الله بَارِئًا. فقال: أَمَا إني على ما تَرَى وَجِعٌ… الحديث.
(2) أخرجه البخاري في كتاب «الأحكام» باب «الاستخلاف» حديث (7217) من حديث عائشة ل.
(3) أخرجه أبو نعيم في «حلية الأولياء» (9/183).
(4) قال شيخ الإسلام زكريا الأنصاري في «أسنى المطالب» (1/295): «وذَكَرَ ما في «الروضة» من كراهة كثرَةِ الشَّكْوَى، كما ذَكَرها في «شرح الإرشاد» كان أوْلَى، وقد ذَكَرَها في «المجموع» وقال: فلو سأله طبيبٌ أو قريبٌ له أو صديقٌ أو نحوه عن حاله فأخبره بالشِّدة التي هو فيها لا على صورة الجزع فلا بأس، (و) تَرِك (الأَنين) منه جَهْده لما مرَّ، قال في «المجموع»: والصواب أنه لا يكره، وإن صرَّح بكراهته جماعةٌ؛ لأنه لم يثبت فيه نهيٌ مقصودٌ، بل في البخاري: أن عائشة قالت: وَارَأسَاهُ. فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم : «بَل أنَا وَارَأْسَاهُ». لكن الاشتغال بالتسبيح ونحوه أولى منه فهو خلاف الأولى، ولعلَّه مرادُهم».
(5) «المجموع شرح المهذب» (5/128).
(6) أخرجه أحمد في «مسنده» (6/228) حديث (25950)، وابن ماجه في كتاب «ما جاء في الجنائز» باب «ما جاء في غسل الرجل امرأته وغسل المرأة زوجها» حديث (1465)، وذكره الكناني في «مصباح الزجاجة» (2/25) وقال: «هذا إسناد رجاله ثقات رواه البخاري من وجه آخر عن عائشة مختصرًا، ورواه النسائي في كتاب الوفاة، وليس في روايتنا سويد فذكره بإسناده ومتنه وقال: حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. قلت: رواه أحمد في مسنده من هذا الوجه».
(7) «المجموع شرح المهذب» (5/128).
(8) «فتح الباري» (10/124).

تاريخ النشر : 26 ديسمبر, 2017
التصنيفات الموضوعية:   14 متنوعات

فتاوى ذات صلة:

Send this to a friend