حول الجمعيات الخيرية

فضيلة الشيخ، أرجو أن تتفضل بإجابتي عن السؤال الآتي: ما هي الضوابط الشرعية الواجب مراعاتها في الجمعيات الخيرية؟ وما الفرق بينها وبين الأحزاب؟ وهل يمكن أن تصير الجمعية حزبًا يفرق جماعة المسلمين؟ وما حكم من يترك العمل فيها بحجة أنها تنظيم وتكتل غير مأذون به في الشرع أو بحجة أن بعض من هو فيها ينتمي إلى تيار آخر لا يوافق عليه؟ وهل الأحزاب على الهيئة الموجودة عليها حاليًّا هي الأحزاب التي نهى الله تعالى عنه أم أن المراد هي الأحزاب المتناحرة المتفرقة؟

 

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:
لا يصح إطلاق القول باعتبار التجمعات الإسلامية المعاصرة امتدادًا للفرق الإسلامية القديمة كالخوارج والمعتزلة والمرجئة ونحوهم، سواء أكانت من قبيل الجمعيات أم كانت من قبيل الجماعات، فالفرق إنما تتكون بالتحزب على أصول كلية بدعية تخالف الأصول الثابتة بالكتاب والسنة والإجماع، أو على بدع جزئية كثيرة، وإن هذا هو الضابط الذي ذكره أهل العلم في الحكم على تجمع من التجمعات بأنه يعد فرقة من الفرق الضالة المتوعدة في حديث الفرق.
فإذا لم يكن هذا ولا ذاك فيعسر إطلاق وصف الفرق على تجمع من التجمعات المعاصرة، لمجرد اجتماعه على عمل من أعمال الخير، أو اصطلاحه على مقدم فيه تنتظم به أعمالهم، في واقع أعلنت فيه العلمانية، ويتحزب خصومهم فيه على تحكيم القوانين الوضعية، ويتنادون جهارًا بالفصل بين الدين والدولة.
ولمشروعية أي تجمع من التجمعات لابد من ثلاثة شروط:
• الأول: ألا يتحزب على أصل كلي بدعي، وإلا كان فرقة من فرق الضلالة.
• الثاني: ألا يخرج به على إمام زمانه ما أقام في الأمة كتاب الله، وإلا كان من جنس عمل البغاة الخارجين على الأئمة.
• الثالث: ألا يعقد على أساس هذا التجمع ولاء ولا براء، وإلا كان من أمور الجاهلية التي تتفرق بها الأمة شيعًا وأحزابًا.
وكل تراجع في أحد هذه الشروط ينعكس على مشروعية هذه التجمعات سواء أكانت جمعيات أم كانت جماعات بالخلل والتراجع، إلى أن تنعدم هذه المشروعية بالكلية.
هذا ولقد أحيا العمل الإسلامي المعاصر جملة من المفاهيم والمصطلحات المتعلقة بهذه القضية، فشاعت في أدبياته مفردات التنظيم والجماعة والبيعة والإمارة… إلخ.
ويمكن القول بأن المعترك الفكري الذي شهدته الساحة الإسلامية في هذا المجال قد أسفر عن ثلاثة اتجاهات:
الاتجاه الأول: يرى وجوب تنظيم الأتباع في إطار جماعة عامة يبايع أميرها على السمع والطاعة في العسر واليسر، والمنشط والمكره، فلا إسلام إلا بجماعة، ولا جماعة إلا بأمير، ولا أمير إلا ببيعة. وجمهور هذا الاتجاه على أن الجماعة فريضة من الفرائض، من تخلف عنها فهو آثم، وشذت طائفة فقالت: الجماعة أصل الدين من لم يلتزم بها فهو كافر مشرك.
الاتجاه الثاني: يرى أن الرابطة المثلى للعمل الإسلامي في زمن الاستضعاف أن يكون دعوة أو تيارًا فكريًّا، وألا يأخذ شكل التنظيم أو الجماعة بالمعنى السابق، وذلك لما أدت إليه فكرة التجمع في إطارات منظمة من انقسام العمل الإسلامي إلى جماعات وأحزاب متنافرة، ولما يجلبه الشكل المنظم للعمل من صدام مع القيادات العلمانية لا مصلحة للعمل الإسلامي في استجلابه أو تعجيله، بالإضافة إلى انعدام الشواهد العلمية التي تدل على سلفية هذه الأطر التنظيمية، ومن ثم فإنهم يتحاشون فكرة البيعة والجماعة، وربما شنعوا في ذلك على المخالف.
الاتجاه الثالث: يرى أن النصوص العامة التي جاءت في لزوم الجماعة والأئمة إنما يقصد بها الإمام الأعظم الذي يجتمع عليه الناس كلهم، بحيث يكون ممثلًا للمسلمين كافة، فمن خرج عليه كان خارجًا على جماعة المسلمين؛ لأن إجماعهم قد انعقد على التسليم لهذا الإمام والطاعة له، وهذه هي البيعة التي تعد فرضًا على كل مسلم.
أما البيعات الجزئية الاتفاقية التي تعقد على أعمال معينة ومهام محددة فهي من جنس التعاون على البر والتقوى، وتتقرر مشروعيتها في ضوء ما تسفر عنه من نتائج، فإن أدت إلى جمع الكلمة ووحدة الصف كانت عملًا مشروعًا يثاب عليه أصحابه، وإن أدت إلى تحزب العاملين للإسلام وتفرقهم في إطارات متنافرة وجماعات متحاسدة كانت خطأ وإثمًا، وذلك لما تقرر من أن الذرائع تأخذ حكم المقاصد حلًّا وحرمة.
وعلى هذا تكون هذه التجمعات والبيعات مما تتغير فيه الفتوى بتغير الزمان، والمكان، والظروف والأحوال، بحسب ما تفضي إليه من المصلحة أو المفسدة.
والذي يظهر لي بعد تأمل هذه الآراء ما يلي:
• لا نزاع في أن النصوص العامة الواردة في لزوم الجماعة، والتي تتوعد الخارج عليها، إنما تنصرف إلى جماعة المسلمين العامة وإلى إمامها المتمكن، وقد أبعد النجعة من جعلها تنصرف إلى تجمعه الخاص.
• تبديع كل صور التنظيم والتحالف على عمل الخير غلو، والإلزام بها إلزامًا عامًّا لكل أحد وفي جميع الأحوال غلو كذلك، وأكثر من هؤلاء وأولئك غلوًّا من جعل لزوم هذه الجماعات من أصل الدين الذي لا يثبت عقد الإسلام إلا باستيفائه، ولا يعرف هذا المنهج إلا عن أهل البدع.
والعدل بين هؤلاء جميعًا أن يقال: إن اجتماع الناس على طاعة، وتعاقدهم على الوفاء بها، ودعوة الناس إلى ذلك، إنما هو من جنس التعاون على البر والتقوى، والتواصي بالحق والتواصي بالصبر، وذلك لينتظم بها أمر الدعوة، ويجتمع بها شمل العاملين للإسلام، وتكون هذه التجمعات أجزاء من جماعة المسلمين، ويتحدد سلطان قياداتها في ضوء ما اتفق عليه، ويحسن أن يكون العهد مفصلًا لما ينشئه من حقوق، وما يرتبه من التزامات.
ولكن مشروعية هذا كله مشروطة بألا يعقد عليها ولاء ولا براء، وألا ينازع بها إمام شرعي، وألا تؤدي إلى عكس ما قصد منها، بأن تفرق بين المسلمين، أو تحيلهم إلى شيع متنافرة، وأحزاب متحاسدة متطاحنة، فإن أدت إلى شيء من ذلك فإنها تمنع بالاتفاق، لما تقرر من أن الذرائع تأخذ حكم المقاصد حلًّا وحرمة. والله تعالى أعلى وأعلم.

تاريخ النشر : 26 ديسمبر, 2017
التصنيفات الموضوعية:   14 متنوعات

فتاوى ذات صلة:

Send this to a friend