والدي ظالم جائر، وحش آدمي

والدي ظالم جائر، وحش آدمي، يعذب والدتي ويعذبنا منذ أكثر من 25 سنة.
دعوناه أكثر من مرة فرفض وقال: تعالَ أنت وربك ونبيك وادعُ دعاء الظالم متى شئت، فأنا ربكم الأعلى، ومصيركم في يدي. بالمناسبة، هذه كلماته بالحرف الواحد.
ضيعني وضيع جميع إخوتي، وهو حاليًّا يعيث في الأرض فسادًا، ورزقه يزيد يومًا بعد يوم، وصحته في تحسن ملحوظ.
يتناول طعامه في المطاعم الفاخرة، بينما نحن نأكل الخبز اليابس، فلا عمل لي كي أعيل العائلة، وعندنا 10 سكنات، ويقوم بكرائها جميعًا.
وأخي الأكبر ساحر فاجر داعر، صرف في العشر سنوات الماضية ما يقارب مليون دولار أمريكي في اللهو والمجون وفيما يغضب الله، وصحته في تحسن مستمر، وجسمه كجسم البعير، والأدهى والأمرُّ أنه يصلي في الجمعة وأوقات الأعياد فقط.
أما أخي الأقل منه فهو رجل قانون، رفض منحنا المال وتركنا في حوزة هذا الوحش الآدمي فرعون القرن الحديث، هبل هذه الأمة.
أنا لم أفهم شيئًا يفطر بالكفر ويتغدى بالكفر وينام بالكفر، وهو بخير، وبطنه 10 أمتار أمامه، وفي كل مرة يدخل البيت يقول: أنا ربكم الأعلى، ولا دين لي.
فهل يتفضل أحد بالإجابة على هذا الاستفسار الذي لم أجد له حلًّا ولم أعرف منه مهربًا؟
لا تقل لي: إنه والدك. فأنا لا أتذكر أنه والدي إلا عندما أنظر إلى شهادة ميلادي.
لماذا هذا الشقاء في الحياة؟ ولماذا هذا القدر؟ ولماذا من يكفر يزيد رزقه ومن يؤمن يزداد فقرًا. أنا في حالة من الاضطراب في كل شيء، في سكن، في وظيفة، في كل شيء.

 

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه؛ أما بعد:
فأسأل الله يا بنيتي أن يربط على قلبك، وأن يُفرغ عليك صبرًا، وأن يجعل معاناتك تكفيرًا لسيئاتك، ورفعة في درجاتك، وطريقًا قاصدًا إلى رحمة ربك ورضوانه، وفي سؤالك جملة نقاط:
أن الله جلَّ وعلا لا تنفكُّ أفعاله عن حكمته، فللَّه الحكمة البالغة، أدرك ذلك مَن أدرك، وغفل عن إدراكه مَن غفل.
فقد يعُجِّل العقوبة لبعض العصاة ليذكرهم به ويردَّهم إليه، وقد يُؤخِّرها بالنسبة لآخرين ويُملي لهم ليزدادوا إثمًا، فإذا أخذهم لم يُفلتهم، كما قال تعالى: ﴿وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ﴾ [آل عمران: 178].
وقد يذَكَّر بعض هؤلاء العصاة بما يمسهم به من البلاء، فإذا لم ينتفعوا بالتذكير فتح عليهم أبواب كل شيء، حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذهم بغتة، كما قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ *  فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ *  فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ﴾ [الأنعام: 42 – 44].
وله في كل ذلك الحكمة البالغة، ولنكن على يقين أن الله لا يغفل عما يفعله هؤلاء، فهو لا يُطاع إلا بإذنه ولا يُعصى إلا بعلمه، كما قال تعالى: ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ  *  مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ﴾ [إبراهيم: 42- 43].
إن الإمهال عقوبة لبعض الطغاة ليس غفلة من ربِّكِ عنهم، ولا عجزًا من ربك عن قهرهم، فـ ﴿أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا﴾ [البقرة: 165]، وأمره كما تعلمين بين الكاف والنون، ﴿وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ﴾ [الزمر: 67]، وإنما هو لحِكَم بالغة كثيرة قد أشرنا إلى بعضها في الفقرات الماضية.
ومن ناحية أخرى فإن هذه الحياة يا بنيتي ليست نهاية المطاف، وإنما هي فصلٌ في كتاب طويل، فسوف يجمع الله الأولين والآخرين ليومٍ لا ريب فيه(1)، ليُقيم فيهم عدله، فيجزي على الإحسان إحسانًا وبالإساءة إساءة، ولن يجاوزه يوم القيامة ظلمُ ظالم، حتى إنه ليقتص للشاة الجمَّاء من الشاة القرناء(2).
وتأملي قول الله تعالى: ﴿وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ﴾ [الأنبياء: 47].
لقد فتح الله عليك يا بنيتي أبوابًا من العبودية بهذا البلاء:
عبودية الصبر على البلاء، و«الصَّبْرُ ضِيَاءٌ»(3)، وهو نصف الدين(4)، وأفضل العبادة انتظار الفرج(5)، ﴿إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ [الزمر: 10].
وعبودية الرضا عن الله عز و جل .
وعبودية الضَّراعة والدعاء؛ ﴿فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا﴾ [الأنعام: 43] وما فتح عليك هذه الأبواب إلا لكرامة أرادها بك إن شاء الله إن استكنت له وصبرت على حكمه، ورضيت بقضائه وقدره.
ثم اعلمي يا بنيتي أن الأعمال بالخواتيم(6)، وأن قلوب العباد بين إصبَعين من أصابع الرحمن(7)، فما يُدريك لعل الله أن يَمُن الله على والدك وأخيك بتوبة تقرُّ بها عينك، وتحسن بها خاتمتهما؛ لقد قال نبيك يوم أُحُد وقد شُجَّ وجهُه وتخضَّب بالدماء وكُسرت رُباعيَّتُه: «كَيْفَ يُفْلِحُ قَوْمٌ شَجُّوا وَجْهَ نَبِيِّهِمْ وَكَسَرُوا رَبَاعِيَتَهُ وَهُوَ يَدْعُوهُمْ إِلَى الله عز و جل ؟!». فأنزل الله تعالى عليه قوله: ﴿لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ﴾ [آل عمران: 128](8).
ثم تحققت توبة الله على بعض هؤلاء فكان قادة المشركين يوم أحد هم قادة الفتح الإسلامي يوم اليرموك.
فأحسني الظن بربك جل وعلا، وفوِّضي الأمر إليه، واصدقي اللجْءَ إليه، وأرجو أن ترين من لطائف ربك ورحماته ما لم يخطر لك على بال، «عَجِبَ رَبُّكَ مِنْ قُنُوطِ عِبَادِهِ وَقُرْبِ فَرَجِهِ! يَنْظُرُ إِلَيْكُمْ أَذَلِّينَ قَنِطِينَ فَيَظَلُّ يَضْحَكُ، يَعْلَمُ أَنَّ فَرَجَكُمْ قَرِيبٌ»(9).
فاللهم أفرغ على قلبها صبرًا، وأنزل في نفسها سكينة من عندك، وعجل لها بالفرج والرحمة؛ إنك ولي ذلك والقادر عليه. والله تعالى أعلى وأعلم.

___________________

(1) قال تعالى: ﴿قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ *  لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ﴾ [الواقعة: 49، 50].

(2) فقد أخرج الطبراني في «الكبير» (2/95) حديث (1421) من حديث ثوبان رضي الله عنه : أن النبي ﷺ قال: «يُقْبِلُ الْـجَبَّارُ تَعَالَى يوم الْقِيَامَةِ فَيَثْنِي رِجْلَهُ على الْـجِسْرِ فيقول: وَعِزَّتِي وَجَلالِي لا يُجَاوِزُنِي ظَالِـمٌ. فَيَنْصِفُ الْـخَلْقَ بَعْضَهُمْ من بَعْضٍ؛ حتى إنه لَيَنْصِفُ الشَّاةَ الْـجَمَّاءَ مِنَ الْعَضْبَاءِ بنطْحَةٍ نَطَحَهَا». وذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (10/353) وقال: «رواه الطبراني وفيه يزيد بن ربيعة وقد ضعفه جماعة وقال ابن عدي: أرجو أنه لا بأس به وبقية رجاله ثقات».

(3) أخرجه ابن أبي عاصم في «السنة» (2/523) حديث (1100) من حديث أبي مالك الأشعري رضي الله عنه ، وصححه الألباني في «ظلال الجنة في تخريج السنة لابن أبي عاصم» (1100).

(4) انظر «إحياء علوم الدين للغزالي» (4/66).

(5) أخرجه الترمذي في كتاب «الدعوات» باب «في انتظار الفرج وغير ذلك» حديث (3571)، والطبراني في «الأوسط» (5/ 230) حديث (5169)، من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه  قال: قال رسول الله ﷺ: «سَلُوا اللهَ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنَّ الله عز و جل يُحِبُّ أَنْ يُسْأَلَ، وَأَفْضَلُ الْعِبَادَةِ انْتِظَارُ الْفَرَجِ»، وقال الترمذي: «هكذا روى حماد بن واقد هذا الحديث وقد خولف في روايته وحماد بن واقد هذا هو الصفار ليس بالحافظ وهو عندنا شيخ بصري وروى أبو نعيم هذا الحديث عن إسرائيل عن حكيم بن جبير عن رجل عن النبي ﷺ مرسلًا وحديث أبي نعيم أشبه أن يكون أصح»، وذكره العراقي في «تخريج أحاديث الإحياء» (1/ 258) وقال: «الترمذي من حديث ابن مسعود وقال حماد بن واقد ليس بالحافظ، قلت: وضعفه ابن معين وغيره».

(6) أخرجه البخاري في كتاب «القدر» باب «العمل بالخواتيم» حديث (974) من حديث سهل بن سعد رضي الله عنه .

(7) فقد أخرج مسلم في كتاب «القدر» باب «تصريف الله تعالى القلوب كيف شاء» حديث (2654) من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص ب: أن النبي ﷺ قال: «إِنَّ قُلُوبَ بَنِي آدَمَ كُلَّهَا بَيْنَ إِصْبَعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ الرَّحْمَنِ كَقَلْبٍ وَاحِدٍ يُصَرِّفُهُ حَيْثُ يَشَاءُ». ثم قال رسول الله ﷺ: «اللَّهُمَّ مُصَرِّفَ الْقُلُوبِ صَرِّفْ قُلُوبَنَا عَلَى طَاعَتِكَ».

(8) أخرجه أحمد في «مسنده» (3/288) حديث (14104) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه ، وصححه ابن القيم في «زاد المعاد» (3/206).

(9) لم أقف عليه بتمام لفظه في كتب السنة، وقد ذكره ابن كثير بتمامه في «تفسيره» (2/128) من حديث أبي رزين . وذكره الألباني في «السلسلة الصحيحة» عقب حديث (2810) وقال: «قاله ابن كثير… ولم أره بهذا اللفظ، فالظاهر أنه رواه بالمعنى. والله أعلم».
وقد أخرجه أحمد في «مسنده» (4/11) حديث (16232)، وابن ماجه في مقدمة «سننه» باب «فيما أنكرت الجهمية» حديث (181) من حديث أبي رزين أيضًا رضي الله عنه . بلفظ: «ضَحِكَ رَبُّنَا من قُنُوطِ عِبَادِهِ وَقُرْبِ غِيَرِهِ» قال: قلت: يا رسول الله أويضحك الرب؟ قال: «نَعَمْ». قلت: لَنْ نَعْدِمَ من رَبٍّ يَضْحَكُ خَيْرًا. وذكره الألباني في «السلسلة الصحيحة» حديث (2810).

تاريخ النشر : 26 ديسمبر, 2017
التصنيفات الموضوعية:   07 آداب وأخلاق

فتاوى ذات صلة:

Send this to a friend