في عام 1991م قام المهندس «م» بعرض اقتراح إنشاء مدرسة على عدد محدود من الشركاءـ، وتم شراءُ الأرض، ودفع مقدم قيمتها واستخراج تصاريحها باسم أحد الشركاء، هو المهندس «هـ»، الذي قام بكل العمل في مصر حتى اكتمال المدرسة وافتتاحها في عام 1995م-1996م على أربع فصول مدرسية.
في عام 1993م بلغ عدد الشركاء (20) عشرون شريكًا معظمهم مقيمون خارج مصر.
1) تم عمل عقد الشركة، وهو النظام الأساسي للشركة، وهو عرفي غير مسجل، وتم التوقيعُ عليه بالرياض من (10) عشرة من الشركاء المتواجدين وقتها، وأهم الموقعين عليه هو المهندس «م» نفسه وزوجته، وأَخْطَر الجميع به. والمفترض أن المدير «م» عليه استكمال التوقيعات لباقي الشركاء، فأهمل ذلك، ولكن تم تفعيل العقد وتم العمل به لسنوات، وتم انتخاب مجلس إدارة وانتخب رئيسه المهندس «م».
2) طالبت وزارة التعليم القائم بالأعمال والممثل القانوني للشركاء المهندس «هـ» بوجوب عمل شركة رسمية بغرض الحصول على ترخيص، فتَمَّ عمل توكيلات للمحامي وعمل العقد، والهدف منه مُجرد تسيير الأعمال، ومنها أن الشركة التي صدر الترخيص باسمها شركة «م- ت» تستأجر المدرسة من الملاك، وهم ملاك الشركة أيضًا، بهدف حساب إيجار للمبنى ضمن مصاريف الشركة والتي تفرض عليها الوزارة نسبة ربح معينة لا تتعداها.
فأصبح لدينا عقدان:
(1) عقدُ النظام الأساسي العُرفي غير المسجل، وهو موقع من بعض الشركاء بأنفسهم، وأهم الموقعين عليه هو المهندس «م» وزوجته، وهم طرف النزاع الأول، وانضم معهما شقيقه الأستاذ «م هـ» ناظر المدرسة وزوجته، والأستاذ «م ك» مدير المدرسة، وقد رفضوا التوقيع على العقد حيث استكملنا توقيع باقي الشركاء عليه حاليًّا لما بدأ النزاع. وقد أهملت التوقيعات في حينها نظرًا للثقة الكبيرة بين الشركاء؛ ولظنهم أن النفوس لن تتغير كما حدث فعلًا.
(2) عقد مسجل معمول بواسطة المحامي بموجب توكيلات مرسلة له من الشركاء؛ لمجرد تسيير الأعمال، وتم تسجيله وإشهاره بالطرق القانونية.
والدليل التالي يوضح ما ذهبنا إليه:
مرفق خطاب مرسل من عمل «م م» من الرياض في (1/7/1997م)، موجه من «م م» للشركاء، يشرح فيه ملخص المشروع ويقول في فقرة (2) منه- مُرفَق صورته:
إنه تقرر تسجيل شركة توصية بسيطة من ملاك المدرسة:
(1) لتكون أمام وزارة التعليم هي الجهة المستأجرة للمدرسة؛ وذلك لإمكان صرفِ جزء من إيرادات المدارس إلى الشُّركاء في شكل قيمة إيجارية سنوية للأرض والمباني المملوكة لهم تسدد لهم.
2) ذكر ما نصُّه: من خلال استبيان لآراء الشركاء- مرفق صورته- تم اختيار «م م» مديرًا عامًّا للشركة لمدة (3) ثلاث سنوات، ويعاونه في الإدارة مجلس للمديرين من خمسة شركاء.
وفي نفس الاستبيان تم الاتفاق على أن يكون اسمُ المدارس هو مدارس «ص-خ»، مما يستدل به أن العقد المسجل هو عقد صوري لتسيير الأعمال فقط، خاصة أنه لم يتضمن ما جاء في الخطاب موافقًا للعقد الأساسي العرفي عن انتخاب «م م» مديرًا عامًّا للشركة لمدة (3) ثلاث سنوات، ويعاونه في الإدارة مجلس للمديرين من خمسة شركاء. وهو ما لم ينصَّ عليه في العقد المسجل.
ومثل هذا الخطاب كثير يخاطب فيها «م م» مجلس الشركاء أو يكلفهم بعمل ما، علمًا بأن جميع المديرين كانوا متطوعين لا يتسلمون رواتب، كما أن العقد المسجل نفسه ذكر فيه مجلس المديرين الشركاء أكثر من مرة.
وبدأ النزاع على النقاط التالية وللأسباب التي سنذكرها فيما يلي:
1- في العقد الأساسي (1) مجلس الإدارة ستة من الشركاء، يتم بالانتخاب كل (3) ثلاث سنوات، ويتم تعيين رئيسه منهم. ولكن الواقع أن هذه الانتخابات عملت مرة واحدة في أول الأمر، ولم تتكرر رغم مطالبتي وعدد من الشركاء بها عدة مرات، وسنويًّا على الأقل، واستمر المهندس «م» رئيسًا لمجلس الإدارة دون وجه حقٍّ.
2- القيود المفروضة على مجلس الإدارة، وأهمها: أنه لا يجوز للإدارة منح أنفسهم رواتب أو مكافآت، أو التصرف في أموال المشروع، إلا بإذن مجموع ثلثي الشركاء، وهذا ما لم يحدث على الإطلاق.
3- بمقارنة العقدين تجدهما متطابقين تقريبًا إلا أن البندَ الخاص بالإدارة الجماعية وطريقة انتخابها والقيود المفروضة عليها وهي مُسطَّرة في أربع صفحات في العقد الأساسي (1) استبدلت في عقد تسيير الأعمال المسجل (2) ببند واحد من بضعة أسطر تركز جميع السلطات في يد المهندس «م» وتجعل منه المدير الأبدي الذي لا يسأل عما يفعل.
4- وكان من نتيجة ذلك أن فوجئ الشركاء بأن رئيس المجلس واثنين من الشركاء العاملين «م هـ» الناظر و«ك م» ومعهم الممثل القانوني المهندس «هـ» بنسبة أقل يحصلون على رواتب ومكافآت تفوق عشرة أضعاف المثل في الشركات المماثلة على الأقل، حيث بلغ متوسط دخل الواحد منهم شهريًّا (18) ثمانية عشر ألف جنيه، علاوة على نصيب كل منهم في الأرباح الموزعة على الشركاء، فيما بلغ متوسط الراتب الممنوح للمثل في المدارس المماثلة نحو ألفي جنيه وأقل وأقرب مثال العاملين في نفس المشروع من غير الشركاء، وكل هذه الرواتب والمكافآت بغير إذن باقي الشركاء.
5- من المفترض أن رئيس مجلس الإدارة مسئول عن استكمال التوقيعات على النظام الأساسي للشركة، وهو عقدها الرئيسي، ولكن لم يحدث إهمال منه إذا أحسنَّا الظن به، ولكننا استكملنا كل التوقيعات حاليًّا عدا الناظر، وهو شقيقه، ومدير المدرسة وهو أحد المستفيدين استفادة هائلة من المخصصات والرواتب الممنوحة لهم والمبالغ فيها كما ذكرنا سابقًا، فادَّعوا أنهم لا يعلمون شيئًا عن العقد ولا يلتزمون به.
مع العلم بأن بنودَ العقد المختلف عليها تُمثل قواعدَ عامة لا يمكن الاختلاف عليها، وأهمها عدم أحقيَّة العامل من الشركاء منح نفسه مكافآت أو رواتب تفوق رواتب المثل إلا بموافقة الشركاء الباقين أو أغلبيتهم على الأقل.
الآن نريد حكم ما يلي:
أولًا: أي العقدين يُرجَع إليه عند التنازع، العقد الأساسي الذي يفرض الإدارة الجماعية المقيدة بقيود شرعية منصوص عليها (1)، والتي وقَّع عليها معظم الشركاء (20) عشرون من (23) ثلاثة وعشرين شريكًا؟ أم العقد المسجل الذي عُمل لتسيير الأعمال، والذي يفرض الإدارة الفردية الأبدية، والتي ليس عليها أي قيود، وهو ما يرفضه معظم الشركاء ويقره فقط (5) خمسة من (23) ثلاثة وعشرين شريكًا؟
ثانيًا: حكم من ينكر العقد الأساسي غير المسجل (1)، والموقع عليه من معظم الشركاء حاليًّا (20) عشرون من (23) ثلاثة وعشرين شريكًا؟
ثالثًا: حكم من يرفض الالتزام بالشروط العامة التي لا نظن أنها تحتاج لعقد، مثل عدم إعطاء العاملين من الشركاء أنفسهم رواتب تزيد عن رواتب المثل، كما هو منصوص بالنظام الأساسي، ومكافآت وعمولات بدون موافقة باقي الشركاء؟
رابعًا: حكم من يتمسَّك بعقد لا يرضى عنه معظم شركائه، لا لهوى في أنفسهم ولكن لممارسات خاطئة أدت إلى البحث في العقود وقد كان بيننا من الثقة المفرطة التي كانت تُغنينا عن العقود والمواثيق رغم أهميتها؟
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه؛ أما بعد:
فبين يدي الإجابة عن هذه الأسئلة أود التوطئة لها بمقدمتين:
الأولى: أن النزاع عندما يقع بين أهل الدِّين فالأصل أنهم يضربون أنبل الأمثلة في الحرص على النزاهة وبراءة الذمة، والإنصاف من النفس، ويؤكدون لأنفسهم وللمراقب من حولهم أن الدنيا أهون في أنفسهم من أن يهتكوا بها رحم الأخوة، أو أن يخرقوا بها سياج الأمانة والتقى، أو أن يكونوا سببًا في الصد عن الشريعة والزهادة في تحكيمها وإقرار مرجعيتها؛ لما يرى من اضطراب مواقف بعض دعاتها والمنتسبين إلى معسكرها. فيُقدِّمون بذلك أمثلةً راقية لمن يُشكِّكُون في طهارة أهل الدين، وتجردهم للحق، وإنصافهم من أنفسهم، ويردون بذلك على من يزعمون أن الشريعة لا تعدو أن تكون قميصَ عثمان يتذرع به هؤلاء لتحقيق مطامع سلطوية، ومآرب دنيوية، وأنهم إذا جدَّ الجِدُّ وحزب الأمر كانوا أزهدَ الناس فيها، وأكثرهم عقوقًا لها، وأنهم يفشلون عندما يوضعون على المحكِّ في أول اختبار حقيقي لها.
ويزداد الأمر أهمية وحيويَّةً عندما يقع بين فريق من المنتسبين إلى الدعوة، الذين يتوقع منهم في خصوماتهم أن يكونوا أمثلة عُليَا وتجسيدًا حيًّا للمبادئ التي جمعوا أحبابهم حولها، وصدعوا رءوسهم بالدعوة إليها، وتدبيج المقالات والمصنفات في تقريرها ومديحها والانتصار لها، فيُهيلون بذلك التراب على تاريخهم الدعوي، ورصيدهم في العمل التربوي، ويشوهون جمال صحائفهم الدعوية المشرقة بلعاعة من الدنيا، وقد يكون بعض هؤلاء على مشارف السبعين من عمره، وربما لم يكن بينه وبين لقاء ربه إلا أيام. ونعوذ بالله من سوء المنقلب، وقد قال ربي جل وعلا: {بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ} [الحجرات: 11].
ويبلغ الأمر منتهاه عندما تكون الخصومة ماليةً بحتةً، وليست حول المبادئ، كتحكيم الشريعة، وحد الإسلام، وأصل الدين، والولاء والبراء، ونحوه مما تشتجر في بعض مسائله بعضُ فصائل العمل الإسلامي المعاصر.
وقد يعذر بعض المتصلبين في الدفاع عن اختياراتهم العلمية في هذه المسائل؛ لأنهم يتأولون أنهم يدافعون عن الحق، وينتصرون لأصول أهل السنة، ويحرسون الشريعة.
أما في مثل هذه الخصومات فلا ينازع أحدهم إلا على لعاعة من الدنيا، يبيع بها جهاده وتاريخه، ويخسر بها رمزيته الدعوية في نفوس أقرب الناس إليه، وينقلب مادحه ذامًّا له، وأحبابه من أشدِّ الناس منابذة له، والدنيا بأكملها لا تساوي عند الصادقين جناح بعوضة.
ثانيًا: أريد أن أذكر بكلمة عمر بن الخطاب : رُدُّوا الخصوم حتى يصطلحوا؛ فإن فصل القضاء يورث بينهم الضغائن(1).
فلا ينبغي أن يعجز الصالحون عن حلِّ خصوماتهم صلحًا أو تحكيمًا، استبقاء لوشائج المودَّة، وصلة لرحم الدعوة، ووفاء بحقوق الأخوة؛ فإن الفشلَ يعني اللجوء إلى القضاء الوضعي الذي لا ينبغي اللجوء إليه إلا في نهاية المطاف، عندما ينعدم البديل الشرعي القادر على ردِّ الحقوق واستخلاص المظالم، وعندئذ يكون اللجوء إلى القضاء الوضعي رُخصةً، على أن تكون مطالبنا أمامه مشروعة، وألا تستحل من أحكامه إلا ما وافق الشرعَ المطهَّر، ويكون ذلك رخصةً لا تقدح في إيمان من يضطرون إلى اللجوء إليه في مثل هذه الحالة، ويبوء بالإثم من ألجأهم إلى ذلك.
ونرجع بعد هذه المقدمة إلى موضوع الاستفتاء، وأوجز في نقاط بعض المبادئ التي تحكم الفتوى في هذه النازلة:
الأصل في الشركات ألا يتقاضى الشريك العامل فيها أجرًا مقطوعًا أو راتبًا محددًا، وقد اتفق جماهير أهل العلم على ذلك(2)، وإنما قد يزاد له في حصته من الربح مقابل عمله، ووجهوا ذلك فقالوا: إنه قد يؤدي إلى قطع الشركة في الربح، إذا لم يربح المال إلا هذا القدر، أو ضمان رأس ماله وعدم تحمل الخسارة بقدر رأس ماله في حال وقوعها.
ولعله لم ينقل فيما نعلم جواز ذلك إلا عند البهوتي الحنبلي في «شرح منتهى الإرادات» (2/324) عندما قال: وما جرت عادة بأن يستنيب فيه: فله أن يستأجر من مال الشركة إنسانًا حتى شريكه لفعله إذا كان فعله مما لا يستحق أجرته إلا بعمل. انتهى.
إن من أجاز ذلك من الفقهاء لم يُجز الخلطَ بين صفة الشركة وصفة الإجارة، ولا الخلط بين عقديهما، بل يكون التوظيفُ بعقد منفصل؛ حتى لا يؤثر أحدُ العقدين على الآخر، ولا يؤدي عزله أو إلغاء التعاقد معه إلى إلغاء عقد الشركة أو فسخه، فعندما يوظِّف الشريك أجيرًا في الشركة فهو يوظف باعتباره أجيرًا وليس باعتباره شريكًا، فيفقد صفةَ الشريك في هذه الحالة، وأصحاب القرار في تعيينه وعزله هم الشركاء، شأنه شأن سائر العاملين في المشروع، كالسكرتارية والمحاسبة وسائر المدرسين والإداريين. ويحكم علاقته بالشركة أحكام عقد الإجارة وليس أحكام عقد الشركة.
ولا تستقيم الأمور بطبيعة الحال إلا بذلك؛ لتعارض المصالح في هذه الحالة، ولضرورة الفصل بين العامل وجهة الرقابة أو المحاسبة التي تُشرف عليه وتقوِّم أداءه، وهو ما يعرف في علم الإدارة بالفصل بين الملكية والإدارة.
ولقد جاء في المعايير الشرعية الصادرة عن هيئة المعايير الشرعية والمحاسبة بالبحرين ما يلي:
لا يجوز تخصيصُ أجرٍ محدد في عقد الشركة لمن يُستعان به من الشركاء في الإدارة أو في مهمات أخرى مثل المحاسبة، ولكن يجوز زيادةُ نصيبه من الأرباح على حصته في الشركة.
يجوز تكليفُ أحد الشركاء بالمهمات المذكورة في البند السابق بعقد منفصلٍ عن عقد الشركة، بحيث يمكن عزله دون أن يترتب على ذلك تعديل عقد الشركة أو فسخه، وحينئذ يجوز تخصيص أجر محدد له.
وبناء على ذلك فإن للشركاء الحق في إلغاء عقد الإجارة أو التوظيف الذي يبرم مع الموظفين، أو تعديله، وفقًا لآليات اتخاذ القرار في الشركة، مع عدم الإخلال بما ترتب للعاملين من حقوق قبل التعديل أو الإلغاء.
إن حقَّ الشركاء في عزلِ المدير كحقهم في عزل السكرتارية أو أي أحد من الإداريين أو الـمُدرسين، كما لو وجدوا مديرًا بأجرة أقلَّ، أو بخبرة أكثر، أو لوجود اضطرابات إدارية أو مالية، أو لمجرد الصالحِ العام بدون تفصيل. وكونه شريكًا لا يمنحُه حصانةً تجعله بمنأى من هذه القرارات، فكما أن الاستغناءَ عن مدرس أو موظف إداري لا يثير كل هذه الجلبة، فهكذا الاستغناء عن المدير وإن كان شريكًا لأنه لم يوظف باعتباره شريكًا بل باعتباره أجيرًا، فما يُطبق على المدرس والإداري وعامل الأمن من قواعد عامة عند المحاسبة والعزل يطبق على المدير ولا فرق.
أنه لا يُصادر على الشركاء حقهم في عزل من شاءوا من العاملين ما يذكر عادة في عقود الشركات من النص على التحكيمِ الوُدِّي لحل المنازعات؛ لأن هذا النصَّ ينطبق على المنازعات بين الشركاء باعتبارهم شركاء، أما إذا وقع نزاعٌ بينهم وبين أحد العاملين في المدرسة فهذا النصُّ لا يشمل ذلك، فهو لم يقع بين الشركاء، بل وقع بين الشركاء وأجير في المدرسة، وللشركاء التصرفُ بما يحقق مصلحة منشأتهم، وإن كان ثمَّةَ ضررٌ لأحد يعوض عن ذلك وفقًا لقواعد العدالة العامة.
إن المعتبرَ من الشروط والعقود هو ما اتجهت إليه أطرافُ العقد ظاهرًا وباطنًا، شرعًا وقانونًا. أما العقودُ النمطيَّة أو الرسميَّة البحتة، التي لا يلتفت إليها المتعاقدون، ولا تُراد إلا لاستيفاء الشكل القانوني فحسب، فهذه لا يعول عليها إلا في باب الحكم بالظاهر أمام القضاء، ولكنها لا تُحلُّ حرامًا ولا تحرم حلالًا. فلو باع أحدٌ لآخر شقة بمبلغ نصف مليون جنيه ثم كَتَبا في العقد أن قيمتها ربع مليون تخفيفًا للضرائب، فلا يجوز عند النزاع أن يتمسك أحدهما بالعقد الرسمي ليقول: إن قيمة الشقة ربع مليون وفقًا للأوراق الرسمية، وإن كان القضاء معذورًا عندما يحكم بموجبها، ولكن الطَّرف الذي يحتجُّ بهذا العقد ليس بمعذور، بل هو آكل لأموال الناس بالباطل.
إنه إذا فسد عقد الإجارة أو حدث نزاعٌ حول الأجرة في هذا العقد، فإنه يرجع إلى أُجرة المثل، وهذه قاعدةُ العدل التي جاءت بها الشريعة كمهر المثل وثمن المثل، ونفقة المثل، ونحو ذلك، والمثل هو النظير، ويقصد به أن يدفع لصاحب الحق قيمة تساوي القيمة التي يأخذها نظيره، فمن استأجر أجيرًا ولم يسمِّ له أجرةً أو تنازعَا في تحديدها، أو حكم بفساد العقد، وكانت المنفعة قد استوفيت، فعليه أن يدفع له أجرة نظيره الذي يقوم بمثل هذا العمل، ويحكم بها أهل الخبرة في البلد الذي تمت فيه المعاملة. وكذلك لو اصطاد مُحرِمٌ صيدًا فعليه مثل ما صاده أو قيمته إذا لم يكن له مثل. والمرأة يموت عنها زوجها أو يفارقها بطلاق ولم يُسمِّ لها مهرًا فلها مهر المثل فتأخذ مهرًا مساويًا لما تأخذ مثيلاتها في الحسب والجمال وهكذا.
قال ابن قدامة في «المغني»: «إن استوفى المنفعةَ في العقد الفاسد، فعليه أجرُ المثل. وبه قال مالك والشافعي»(3). اهـ.
وجاء في «الموسوعة الفقهية»: «لو كان في الأجر جهالة مُفضية للنزاع فسد العقد؛ فإن استوفيت المنفعة وجب أجر المثل، وهو ما يقدره أهل الخبرة». اهـ.
نرجع بعد هذا إلى تطبيقِ هذه المبادئ على موضوع النزاع:
تأسيسًا على الفصل بين العقدين؛ فإن للشركة أن تُعدِّل عقودَها مع موظفيها بما يحقِّقُ مصلحتها متى شاءت، فالعقود مردُّها إلى الاتفاق والتراضي، ومن حق صاحب العمل أن يستغني في أي وقت عن أحد العاملين أو عن بعضهم، ولم يعهد في عالم العمل الخاص أن يفرض موظف نفسه إلى الأبد على المؤسسة التي يعمل فيها؛ فصاحب المال هو صاحب الحق في توظيف من شاء، وعزل من شاء، بما يحقق مصلحة العمل، وفي حدود العقود واللوائح والأعراف المنظمة لذلك.
والسؤال الآن: هل يستطيع موظفٌ آخر في المدرسة أن يقفَ نفس الموقف الذي يقفه الشريك المدير الآن إذا اختلف مع الإدارة؟ إن عُقدَة الحل في هذه المشكلة هو الفصل الذهني والنفسي والعملي بين الملكية والإدارة، فالموظف عندما يكون أجيرًا ينسى أنه شريك، فلا يجوز له أن يستطيل بسيف المشاركة ليفرض حقوقًا أو ينتزع صلاحيات أو يفرض وجوده في المؤسسة إلى الأبد.
فإذا وُجد عقدان وتنازع الطرفان حولَ العقد الحاكم للعلاقة بينهما، نظر في ذلك، وتستنطق القرائن والملابسات المحيطة بكل منهما، ويستشار الخبراء في هذا المجال من المحاسبين والقانونيين؛ فإن عجزَا عن الترجيح تساقطَا ورجعنا إلى الأصل، للعامل أجرة مثله ولصاحب المال الحق في التصرُّف في ماله وإدارته كما شاء.
ولعل الدافعَ إلى التشبث بالعقد القانوني هو الحرص على بقاء المسألة نزاعًا إداريًّا وليس نزاعًا أخلاقيًّا؛ ذلك أن الحجة الوحيدة التي يُبرر بها المدير تجاوزاته هو العقد القانوني، فإذا سقطت جديته ومرجعيته تحولت الخصومة من خصومة إدارية إلى خصومة أخلاقية تتعلق بالذمم والأمانة وطهارة اليد.
وإنني لعلى يقين بأن جميع الإخوة الشركاء لا يقدحون في عرض الشريك المدير، ولا يشككون في نزاهته وطهارة يده، وكلهم مستعدُّون للقسم على ذلك، وأن مرد الأمر إلى سوء التأويل والخطأ في التقدير، ولا علاقة له بالأمانة والسمعة والطهارة، فيجب إعلانُ ذلك، والتأكيد عليه حتى لا تُعينوا الشيطان عليه، وتيسروا له أمر الرجوع إلى الحق.
وفي جميع الأحوال أيًّا كانت نتيجة هذا النظر فإنه لا علاقةَ له بالنسبة للمستقبل؛ فإن موضع المنازعة والجدل فيما ترتب من حقوق فيما مضى، والعقد الحاكم لها، أما بالنسبة للمستقبل فهذا العقد الذي ينازع السواد الأعظم من الشركاء فيه ويتفقون على إلغائه واعتباره كالعدم لا مجالَ لاعتباره أو الاحتجاج به بالنسبة للمستقبل بحال من الأحوال، فهو بين أمرين: إما أنه كان عقدًا صحيحًا كما يدَّعي مَن تمسَّك به ثم تم إلغاؤه ممن يملك الحق في الإلغاء وهو صاحب المال فيكونُ منعدمًا، أو أن يكون عقدًا فاسدًا من البداية، وهذا أحرى بانعدامه وعدم اعتباره.
وفي جميع الأحوال فإن الشريكَ المدير عامل عند الشركة، فلا يحلُّ له أن يصرف لنفسه علاوات أو حوافز أو أن يقر لنفسه من الأجر والمكافآت إلا باتفاق صريح مع شركائه الذين يعمل عندهم ولصالحهم، وأي خروج عن هذا فهو استحلال للحرام وأكل لأموال الناس بالباطل.
وما ورد النص عليه في العقد من أنه لا يجوز للإدارة منح أنفسهم رواتب أو مكافآت أو التصرف في أموال المشروع إلا بإذن مجموع ثلثي الشركاء. هو ملزم بمُقتضى العقد من ناحية، وملزم بمقتضى القواعد العامة للشرع، وما تعارف عليه البشر من قواعد عامة للعدالة من ناحية أخرى، شأنه شأن سائر موظفي المدرسة، فهم جميعًا أمام هذه القاعدة سواء، بَدْأً من عامل النظافة وانتهاء بالمدير.
بقيت كلمة: لقد ذكر أن راتب ناظر المدرسة وحده يفوق رواتب وكلاء المدرسة مجتمعين وهم ثمانية، أما راتبه بالنسبة للمدرسين فهو أضعاف مضاعفة، لا وجه فيها للمقارنة بحالٍ من الأحوال، وهذه ملاحظة تقتضي وقفة محاسبة مع النفس، بعيدًا عن الجدل والخصومات والمهاترات. هل نحن أوفياء حقًّا لمشروع تحكيم الشريعة؟! وهل نحن جديرون حقًّا بأن يمكننا الله في الأرض؟! وهل سنُدير الدولة الإسلامية التي ننشدها بهذا النفسية: الاختصاصات كل الاختصاصات، والمزايا كل المزايا للكبار، وللكبار وحدهم، ولغيرهم الفتات وقبض الريح، وهل يثق الناس في أمثالنا ويسلمون قيادهم لهم إذا وقفوا على هذه التفصيلات الصادمة الفاجعة.
أرأيت لو أن أحدًا من العاملين في المدرسة أخذ هذه الوقائع وحوَّلها إلى قضية رأي عام ونشرها في وسائل الإعلام، هل يبقى لنا بعدها وجه لكي ندافع عن الشريعة وندعو الناس إلى تطبيقها ونكفر من يرفضها؟!
إن مما أفدته من نظر هذه الخصومة هو النظر بعين الإشفاق لتخوفات بعض من أُشربوا روح العلمانية في خطابهم العام، ممن يقولون نؤمن بمرجعية الشريعة، ونخشى من تفسيرات وتأويلات بعض الدعاة إليها، وأنها ستحولهم إلى أباطرة وقَوَارِين- جمع: قارون- يستطيلون بها على عباد الله، ويجمعون المال الحرام من وراء عباءة الدين وقميص الشريعة، فانحازوا بسبب ذلك إلى التيار الليبرالي، على حد قول بعضهم: عدلٌ في ظل النجاشي خير من جَوْرٍ في ظل الحجاج. وهم قطعًا مخطئون، ولكنهم مفتونون، وبعضنا هو الذي تولى للأسف كِبْرَ هذه الفتنة، وصدق الله العظيم: { رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (85) وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [يونس: 85، 86].
ولهذا فإننا نُهيب بالشركاء جميعًا أن يُحاسبوا أنفسهم قبل أن يحاسبوا، وأن يزنوا أعمالهم قبل أن توزن عليهم(4). فإنه كما قال الآخر:
لا شيء مما ترى تبقى بشاشتُه
يبقى الإله ويفنى المال والولد(5)
والله من وراء القصد. والله تعالى أعلى وأعلم.
__________________
(1) أخرجه عبد الرزاق في «مصنفه» (8/303) حديث (15304)، والبيهقي في «الكبرى» (6/66) حديث (11142)، وابن أبي شيبة في «مصنفه» (4/534) حديث (22896).
(2) جاء في «بدائع الصنائع» من كتب الحنفية (6/186-187): «(ومنها) شركة العامل فيما يعمل فيه؛ لأن العامل أجير رب الأرض، واستئجار الإنسان للعمل في شيء هو فيه شريك المستأجر لا يجوز حتى إن النخل لو كان بين رجلين فدفعه أحدهما إلى صاحبه معاملة مدة معلومة على أن الخارج بينهما أثلاث ثلثاه للشريك العامل وثلثه للشريك الساكت فالمعاملة فاسدة والخارج بينهما على قدر الملك ولا أجر للعامل على شريكه لما مر أن في المعاملة معنى الإجارة، ولا يجوز الاستئجار لعمل فيه الأجير شريك المستأجر وإذا عمل لا يستحق الأجر على شريكه لما عرف في الإجارات ولا يشبه هذا المزارعة؛ لأن الأرض إذا كانت مشتركة بين اثنين دفعها أحدهما إلى صاحبه مزارعة على أن يزرعها ببذره».
(3) «المغني» (5/330-331).
(4) فقد أخرج الترمذي في كتاب «صفة القيامة والرقائق والورع» باب «ما جاء في صفة أواني الحوض» حديث (2459)، وابن ماجه في كتاب «الزهد» باب «ذكر الموت والاستعداد له» حديث (4260) أن عمر بن الخطاب قال: حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا وتزينوا للعرض الأكبر وإنما يخف الحساب يوم القيامة على من حاسب نفسه في الدنيا.
(5) هذا البيت لورقة بن نوفل وهو من بحر البسيط. انظر «الأغاني» لأبي الفرج الأصفهاني (3/115).