فضيلة الشيخ، أعمل في شركةٍ لصنع السجائر، ومؤخرًا حصلتُ على إقامة دائمة بكندا. فهل أهاجر أم لا؟
مع العلم بأنني عانيتُ كثيرًا من البطالة لأكثر من ثلاث سنوات قبل أن أحصل على عملٍ في هذه الشركة؛ حيث كانت أمي هي المعيل الأساسي لأسرةٍ تتكون من ستة أفراد من عملها بأجرٍ زهيد.
ولقد حاولتُ وما زلت أحاول الحصول على عملٍ في موطني، لكن من دون جدوى حتى الآن، وحتى إن حصلت عليه فسيكون الأجرُ نصفَ أجري الحالي (أصدقائي في شركات أخرى). جزاكم الله خيرًا.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه؛ أما بعد:
فإن التدخين يا بني بشهادة الشركات المنتجة له منتجٌ قاتل، وهو الـمُسبِّب الرئيس للسرطان، وتُلزِم وزاراتُ الصحة الشركاتَ المنتجة لهذه السموم بكتابة هذا بخطٍّ واضح على أغلفة هذه السموم.
فيكون العمل في هذا المجال إعانة على منكر، وتعاونًا على الإثم والعدوان، وقد قال ربُّك جل وعلا:﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ﴾ [المائدة: 2].
ولا ينبغي لأحد أن يقبل بالعمل في هذا المجال إلا تحت مطارق الضرورة، والضرورة تُقدَّر بقدرها ويُسعَى في إزالتها.
والهجرة يا بني خارج ديار الإسلام تختلف باختلاف أحوال الناس:
فمنهم من يُحالفه التوفيق فيكون مُقامه بجوار مركز إسلاميٍّ، ومدرسة إسلامية، وجالية متدينة، ويُوفَّق إلى عمل مشروع، فيعيش في وضعٍ يغبطه عليه كثيرٌ من المقيمين في بلاد المسلمين.
ومنهم من لا يوفق إلى ذلك، فيسلم نفسه وأهله إلى الضياع، وتنطبق عليهم هذه المعادلة التي تقول: إن الجيلَ الأول من أولاد المهاجرين يفقدون اللغة، والجيل الثاني يفقدون اللغة والدين معًا.
والقاعدة يا بني أن يُقيم المسلمُ حيث يكون أرضى لله وأعبد له، وحيث يكون أنفع لدينه ولعباده. فمن قدر على إقامة دينه في أرض وأمن فيها من الفتنة فيه جازت له الإقامة في هذه الأرض، وإلا وجبت عليه الهجرة إلى مكان آخر.
ولقد ناقش مجمع فقهاء الشريعة بأمريكا في دورة انعقاد مؤتمره الثالث هذه المسألة، وأكَّد قرارَه فيها على أن الأصل أن يُقيم المسلم داخل ديار الإسلام؛ تجنبًا للفتنة في الدين، وتحقيقًا للتناصر بين المؤمنين، وأنه لا تحل له مفارقتُها إلا بنيةٍ حسنة، كطلب العلم، أو السعي للرزق، أو الفرار بالدين، ونحوه. شريطة أن يكون قادرًا على إظهار دينه وآمنًا من الفتنة فيه، مع استصحاب قصد العودة متى امتُهد له سبيلٌ إلى ذلك، وأن على مسلمي البلاد غير الإسلامية التشبث بالإقامة في تلك البلاد، وإظهار ما يمكنهم إظهاره من شعائر الإسلام، والصبر على ما يُصيبهم من بلاء باعتبارهم النواة الأساسية الأقدر على توطين الإسلام في هذه المجتمعات.
كما أكد المجمع على تفاوت حكم الإقامة خارج ديار الإسلام بالنسبة للجاليات الإسلامية بحسب الأحوال: فتُشرع لمن كان قادرًا على إظهار دينه وآمنًا من أن يُفتن فيه هو أو مَن جعلهم الله تحت ولايته، وتجب في حقِّ من تعيَّنت إقامتُه لتعليم الإسلام ورعاية أبنائه ودفع شبهات خصومه، وتَحرُم في حقِّ من غلب على ظنِّه أن يُفتنَ هو أو من يعول في دينه، وحِيل بينه وبين إقامة شعائر ربه.
وهكذا ترى أن الأمرَ متفاوتٌ، وأن الناسَ في ذلك ليسوا سواءً.
وفي ضوء ما سبق من تفصيلٍ تستطيع أن تعرف أين أنت في هذه الإقامة من حيث الشرعية وعدمها، فلا بأس أن تُجرِّب هذه الهجرة، وتجتهد في تهيئة الأسباب الـمُعينة على الإقامة المشروعة؛ فإن تيسَّر لك ذلك فإن التيسيرَ علامةُ الإذن، وإن كانت الأخرى انتقلت إلى مكانٍ آخر، وهكذا لا تزال مهاجرًا بدينك إلى حيث تتمكَّن من عبادة ربِّك، ويُتاح لك التوسعة على نفسك وعلى عيالك.
وأرضُ الله يا بني لم تَضِق بعابدٍ؛ فقد قال تعالى: ﴿يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ﴾ [العنكبوت: 56]؛ ولهذا لم يعذر الذين استضعفوا وحيل بينهم وبين عبادة ربِّهم في أرضٍ وقد كان في مقدورهم التحول عنها إلى أرض أخرى؛ فقال تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا﴾ [النساء: 97]، أما الذين كانوا لا يستطيعون الخروج من هذا الاستضعاف بالهجرة لأسباب قاهرة فقد عذرهم ربي جل وعلا، فقال تعالى: ﴿إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا * فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا﴾ [النساء: 98، 99]، ووعد بالتوسعة على من يهاجر بدينه ابتغاء مرضاة الله؛ فقال تعالى: ﴿وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا﴾ [النساء: 100].
أسأل الله يا بني أن يُلهمك رشدك، وأن يأخذ بناصيتك إلى ما يحبه ويرضاه. والله تعالى أعلى وأعلم.