هل العمل في الهيئات الجمركيَّة، أو أيِّ عملٍ متعلِّق بالتَّعاملات الجمركيَّة به شبهة حرام؟ أم هو عمل حلال؟
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه و من والاه؛ أما بعد:
فزادك اللهُ حرصًا وتوفيقًا، فإن العملَ الجمركيَّ منه ما يحلُّ ومنه ما يَحرُم، فعندما تقتضيه المصلحة العامَّة لحماية مُنتَجٍ محلِّيٍّ من منافسة ضارَّة في فترة من الفترات، فيُرجى أن لا بأس به، أما ما وراء ذلك فالأصل أنه من الظُّلم الذي لا مُسوِّغ له؛ لما فيه من انتهاك حرمة المال أو الإعانة على ذلك؛ إذ لا يجوز أخذُ مال امرئٍ معصوم إلا بطِيب نفسٍ منه(1)، وقد دلَّت النُّصوص على تحريم المَكْس، والتَّشْديد فيه، ومن ذلك قولُه صلى الله عليه وسلم في المرأة الغامديَّة التي زنت فرُجِمَتْ: «لَقَدْ تَابَتْ تَوْبَةً لَوْ تَابَهَا صَاحِبُ مَكْسٍ لَغُفِرَ لَهُ»(2).
قال النَّوَويُّ: «فيه أن المَكْسَ من أقبح المعاصي والذُّنوب الموبقات، وذلك لكثرة مطالبات النَّاس له وظلاماتهم عنده، وتكرُّر ذلك منه، وانتهاكه للناس وأخذ أموالهم بغير حقِّها، وصرفها في غير وجهها». اهـ(3).
ومما ذَكَره أهلُ العِلْم من صور المكوس المُحرَّمة: دراهم كانت تُؤخذ من التُّجَّار إذا مرُّوا، وكانوا يُقدِّرونها على الأحمال أو الرءوس ونحو ذلك، وهذا أقرب ما يكون شبهًا بالجمارك في واقعنا المعاصر.
وقال ابن حجرٍ الهيتمي في كتابه الماتع «الزَّواجر عن اقتراف الكبائر»: «الكبيرة الثَّلاثون بعد المائة: جباية المكوس، والدُّخول في شيء من توابعها كالكتابة عليها، لا بقَصْد حفظ حقوق النَّاس إلى أن تُرَدَّ إليهم إن تيسَّر.
وهو داخلٌ في قوله تعالى:﴿إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ [الشورى: 42]»(4).
ولكن يبقى بعد ذلك أن من كان له في دخوله في هذه المواقع نيَّةٌ حسنة، كتخفيف الظُّلم عن المظلومين وتقليل المفاسد التي تلحق بالأمة نتيجةً لهذه المكوس الظالمة، فإنه يُرجى أن يكون بهذه النِّيَّة وكيلًا عن المظلوم في تخفيف المظالم الواقعة عليه، وليس وكيلًا عن الظَّالم في إعانته على ظلمه، ولكن من ذا الذي يَقْوى على المحافظة على مثل هذه النِّيَّة الحسنة بدءًا ودوامًا؟! من استطاع ذلك ولم يكن قصدُه الجاهَ أو المال فأرجو أن يسوغ له العمل في مثل هذه المواقع التي تكتنفها الشُّبُهات والـمُحرَّمات، وقليلٌ منها ما يبقى في دائرة المشروعيَّة. واللهُ تعالى أعلى وأعلم.
___________________
(1) جزء من خطبة طويلة أخرجها أحمد في «مسنده» (5/72) حديث (20714)، وأبو يعلى في «مسنده» (3/140) حديث (1570)، من حديث عم أبي حرة الرقاشي رضي الله عنه ، بلفظ: «اسْمَعُوا مِنِّى تَعِيشُوا؛ أَلاَ لاَ تَظْلِمُوا، أَلاَ لاَ تَظْلِمُوا، أَلاَ لاَ تَظْلِمُوا، إنه لاَ يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ إِلاَّ بِطِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ»، وذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (3/265- 266) وقال: «رواه أحمد وأبو حرة الرقاشي وثقه أبو داود وضعفه ابن معين وفيه علي بن زيد وفيه كلام».
وأخرجه أيضًا في «مسنده» (5/113) حديث (21119) من حديث عمرو بن يثربي رضي الله عنه ، بلفظ: «أَلاَ وَلاَ يَحِلُّ لامرىء من مَالِ أَخِيهِ شيء إِلاَّ بِطِيبِ نَفْسٍ منه»، وذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (4/171- 172) وقال: «رجال أحمد ثقات».
وأخرجه أيضًا في «مسنده» (5/425) حديث (23654) من حديث أبي حميد الساعدي رضي الله عنه ، بلفظ: «لاَ يَحِلُّ لِلرَّجُلِ ان يَأْخُذَ عَصَا أَخِيهِ بِغَيْرِ طِيبِ نَفْسِهِ»؛ وَذَلِكَ لِشِدَّةِ ما حَرَّمَ رسول الله من مَالِ الْـمُسْلِمِ على الْـمُسْلِمِ. وذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (4/171) وقال: «رجال أحمد رجال الصحيح».
وأخرجه البيهقي في «خلافياته» بلفظ: «لَا يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلَّا بِطِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ» من رواية أبي حميد الساعدي وعبد الله بن السائب عن أبيه عن جده، وقال: «إسناده حسن». كما ذكر ابن الملقن في «خلاصة البدر المنير» (2/88).
(2) أخرجه مسلم في كتاب «الحدود» باب «من اعترف على نفسه بالزنى» حديث (1695) من حديث بريدة بن الحصيب. رضي الله عنه .
(3) «شرح النووي على صحيح مسلم» (11/203).
(4) «الزَّواجر عن اقتراف الكبائر» (1/348).