أنا أمٌّ جاهدت أن أُربي أولادي على تعاليم الدين، سافرت مع زوجي للعمل بالسعودية، وتزامن ذلك مع دخول أحدِ أولادي لكليَّة الطب، فتعرفَتْ عليه زميلة له، لا أرتضي منها لا خلقًا ولا دينًا ولا حتى نسبًا، بدأت تُمْطره بوابل من رسائل الغرام والاتصالات والمقابلات، وتُوهمه أنها لم تجد من يُعرِّفها الدين، وأنها تريده أن يأخذ بيدها وما إلى ذلك، ولما أخبرني ووالده بهذا الأمر ورغبته في خطبتها نهرته بشدة عن الاستمرار معها، ولـمَّا وجدتُ منه ميلًا شديدًا طلبت منه إرجاء الأمر حتى يُنهيا الدراسة، وأن يبتعد عنها تمامًا أثناء ذلك، وقد حاول الولد فعلًا ولكنها لم تتركه، وظلت تلاحقه بشتى الطرق، يضعف أحيانًا ويقاوم أحيانًا، حتى أنهى الدراسة، وفي أثناء ذلك تزوج ابني الأصغر منه زواجًا رفضته بشدة؛ لعدم رضاي عن خلق البنت، وجُرأتها الزائدة، وعدم الكفاءة الاجتماعية، وهددته أنه لو تزوجها فلن أحضر عُرسه أو أدخل بيته أو أسمح لزوجته بدخول بيتي، ورغم ذلك أصرَّ وأتمَّ زواجه منها، ونفذت أنا ما توعدت به، رغم اعتصار قلبي ألمًا لذلك، ولموقف ابني الذي كان بارًّا، فما كان من ابني الثاني الطبيب هذا أمام ما رأى إلا أن أعلن أنه لن يتزوج إلا برضاي، فلما أتم الدراسة ألح عليَّ زوجي وأهلي أن أوافق على زواجه من فتاته تلك، وألا يكون جزاؤه أن يُحرَمَ مما يريد، بينما يأخذ العاصي ما أراد.
فذهبتُ تحت ضغط لبيت الفتاة لأرى الوضع، فما ازددت إلا رفضًا، ولكن زوجي خوفًا على الولد وخوفًا من ردة فعل غير محسوبة، وراغمًا نفسه ومتكفلًا تقريبًا بكل الأعباء المادية للزواج أتمَّ خطبتها له، وأنا من يومها تقريبًا ابتعدت عن ابني هذا وشبه قاطعته، ورغم تألمه لذلك وعلمه بالسبب إلا أنه ماضٍ بكل قوة وعجلة لإتمام الزواج بل حدَّد موعد العقد، ولم يبق عليه إلا أيام قلائل، وأنا أريد ألا أحضر هذا العقد؛ لأني لا أرتضي هذا الزواج أبدًا، فالبنت كما قلت رغم زعمها أنها طوع إرادته، إلا أنها لا ترقب خلقًا ولا دينًا، وأرى في رسائلها له والتي أقرأها دون علمه فُحشًا وخروجًا عن كل عُرْف وشرع، وأبوها وكل أهلها يساريون ناصريون، غير سوء الأدب، وما إلى ذلك.
فهل أفعل وأكرر ما تمَّ مع أخيه أو أحضر ويتم الزواج بحضوري، وهو ما يعني مباركتي، رغم أن زوجة أخيه أفضل من هذه دينًا بمراحل؟ وهل هذا عقوبة من ربي لي لما فعلت مع أخيه وزوجته؟
أنا في حيرة من أمري، ووالله ما أردت إلا الخيرَ ونصرةَ الحق والدِّين والقيمَ الخلقية التي تربيت عليها، وأن أزوج أولادي بذوات الدين، ولكن الأمر الآن شق عليَّ كثيرًا. أرجو بالله عليكم إفادتي بالحكم الشرعي وبالرأي والمشورة سريعًا. وجزاكم الله خيرًا.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه؛ أما بعد:
فإن مبنى الشريعة يا أمة الله على تحصيلِ المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها، فإذا رأينا مفسدة اجتهدنا في منعها، فإن عجزنا توجهنا إلى تقليلها، ولو طبقت هذه القاعدة لكان لك مع أولادك مسلك آخر.
لقد أردت منعَ زواج أولادك إلا من ذوات الدين والخلق، ولكنك عجزت عن ذلك، وفَاتَكِ الموكبُ، فكان ينبغي أن تكون الخطوةُ التالية احتواءَ هذا الموقف، والسعي في تقليل مفاسده.
إن مقاطعتك لابنك بعد أن مضى في طريقه لن تمنع منكرًا، ولن تُحدث صلاحًا، ولن تزيد الأمر إلا سوءًا وفسادًا! وكان الأقربُ إلى المقاصد الشرعية عدمَ المقاطعة، والسعيَ إلى احتوائه وزوجته، ودفعهما إلى الصلاح والاستقامة، فلا تحرمي نفسك من وجودك بجواره في هذه اللحظات، ولا تمنعيه على الرغم من عقوقه من تذوُّق هذه النعمة، ولعله كان سينكسر بها في يديك، ويلين بها أمام توجيهك ونصحك.
على كل حال لا يزال أمامنا الفرصة لتدارك ما فات، فالرأي أن تستوعبي الموقف مع كليهما، وأن تعلمي أن أبناءنا قد خُلقوا لزمان غير زماننا، ونحن نجتهد في حملهم على الخير ما استطعنا، ولكنا لا نستطيع إكراههم عليه، وأن الهجر الذي لا يُحقِّق مصلحة شرعية من زيادة خيرٍ، أو تقليلِ شَرٍّ، لا فائدة فيه ولا نفع يُرتجى من ورائه، فتركه أولى.
فلنحقق لأولادنا من الخير ما استطعنا، ولندفع عنهم من الشر ما استطعنا، مع دوام الصلة والصبر، فإن الذي يُخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم(1). ولله الأمر من قبل ومن بعد. والله تعالى أعلى وأعلم.
——————————
(1) فقد أخرج أحمد في «مسنده» (2/ 43) حديث (5022)، والترمذي في كتاب «صفة القيامة والرقائق والورع» باب «ما جاء في صفة الحوض» حديث (2507)، وابن ماجه في كتاب «الفتن» باب «الصبر على البلاء» حديث (4032) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الْـمُؤْمِنُ الَّذِي يُخَالِطُ النَّاسَ وَيَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ أَعْظَمُ أَجْرًا مِنَ الْـمُؤْمِنِ الَّذِي لَا يُخَالِطُ النَّاسَ وَلَا يَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ». وذكره الألباني في «السلسلة الصحيحة» حديث (939).