فضيلة الشيخ صلاح الصاوي حفظكم الله؛ رجل طلَّق زوجته طلقتين وتركها حتى بانت منه بعد الطلقة الثانية، فتزوجها آخر ثم مات عنها، فأراد الزوجُ الأول أن يعود إليها، بعد انتهاء عدة الوفاة من الزوج الثاني وبعقد ومهر جديدين، لكنه يسأل كم له من الطلقات؟ هل يعود بما بقي له من الطلقات وهي واحدة؟ أم يعود إليها بثلاث طلقات جدد؟ ولو تكرمتم بذكر الدليل على القول الصحيح. وجزاكم الله خيرًا.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه؛ أما بعد:
فقد اختلف الفقهاء في هدم الزواج الثاني ما دون الثلاث من الطلقات، على رأيين:
فقال المالكية(1) والشافعية(2) والحنابلة(3) ومحمد وزفر من الحنفية(4): لا يهدم. يعني إذا تزوجت المطلقة قبل الطلقة الثالثة غيرَ الزوج الأول، ثم أعادها الزوج الأول بنكاح جديد، فتعود ببقية الثلاث، لما روي عن كبار الصحابة: عمر وعلي ومعاذ وعمران بن حصين وأبي هريرة، ولأن الوطءَ الثاني لا يحتاج إليه في الإحلال للزوج الأول، فلا يُغيِّر حكم الطلاق، ولأنه تزويج قبل استيفاء الطلقات الثلاث، فأشبه ما لو رجعت إليه قبل وطء الثاني.
وقال أبو حنيفة وأبو يوسف(5)، والإمامية في أشهر الروايتين: إنه يهدم. فتعود إلى الزوج الأول بطلاق ثلاث، كما يهدم ما دون الثلاث؛ لأنه إذا هدم الطلقة الثالثة، فهو أحرى أن يهدم ما دونها، لأن وطء الزوج الثاني مثبت للحل، فيثبت حلًّا يتسع لثلاث تطليقات، فيتسع لما دونها بالأولى.
ولقد رد ابن قدامة ذلك من وجهين:
أحدهما: منع كونه مثبتًا للحل أصلًا، وإنما هو في الطلاق الثلاث غاية للتحريم، بدليل قوله تعالى: فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّىٰ تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ ۗ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ ۗ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ [البقرة: 230]. و«حتى» للغاية، وإنما سمى النبي صلى الله عليه وسلم الزوج الذي قصد الحلية محلِّلًا تجوزًا، بدليل أنه لعنه، ومن أثبت حلالًا يستحق لعنًا.
والثاني: إن الحل إنما يثبت في محلِّ التحريم، وهي المطلقة ثلاثًا وهاهنا هي حلال له، فلا يثبت فيها حلٌّ، وقولهم: إنه يهدم الطلاق، قلنا بل هو غاية لتحريمه، وما دون الثلاث لا تحريم فيها، فلا يكون غاية له.
فيظهر أن القول قول الجمهور. والله تعالى أعلى وأعلم.
————————————-
(1) جاء في «التلقين» للقضي عبد الوهاب (ص323) من كتب المالكية: « ولا يهدم الزوج الثاني ما دون الثلاث».
(2) جاء في «الحاوي الكبير» (10/286): «وإن نكحت زوجا وأصابها ثم طلقها وعاد الأول بعد عدتها من الثاني وتزوجها، فقد اختلف الفقهاء فيه، فذهب الشافعي إلى أن وجود الزوج الثاني كعدمه، وأنه لا يرفع ما تقدم من طلاق الأول، وإذا نكحها الأول بعده كانت معه على ما بقي من الطلاق، فإن كان الطلاق واحدة بقيت معه على اثنتين، وإن كان اثنتان بقيت على واحدة».
(3) وهي الرواية الأشهر عن الإمام أحمد، وله رواية أخرى أن الزوج االثاني يهدم طلاق الأول موافقا لأبي حنيفة، جاء في «شرح الزركشي على مختصر الخرقي»: « الرجل إذا طلق امرأته ثم رجعت إليه فإن كان قد طلقها ثلاثًا ثم رجعت إليه بشرطه فإنها ترجع إليه بطلاق ثلاث بالإجماع، وإن كان قد طلقها دون الثلاث، ثم رجعت بعد نكاح زوج آخر. والحال هذه، فهذه صورة الخرقي. وفيها روايتان أشهرهما عن أحمد، وهي اختيار الأصحاب أنها تعود على ما بقي من طلاقها ولا هدم … والرواية الثانية: تعود إليه طلاق ثلاث، فنكاح الثاني هدم الطلاق الأول».
(4) جاء في «بدائع الصنائع» (3/126-127): «ولو قال لامرأته: إن دخلت هذه الدار فأنت طالق ثلاثا فطلقها واحدة أو ثنتين قبل دخول الدار فتزوجت بزوج آخر ودخل بها ثم عادت إلى الزوج الأول فدخلت طلقت ثلاثا في قول أبي حنيفة وأبي يوسف وعند محمد هي طالق ما بقي من الطلقات الثلاث شيء، وأصل هذه المسألة أن من طلق امرأته واحدة أو اثنتين ثم تزوجت بزوج آخر ودخل بها وعادت إلى الأول أنها تعود بثلاث تطليقات في قولهما، وفي قول محمد تعود بما بقي وهو قول زفر».
(5) جاء في «الهداية شرح بداية المبتدي» (1/253): « وإذا طلق الحرة تطليقة أو تطليقتين وانقضت عدتها وتزوجت بزوج آخر ثم عادت إلى الزوج الأول عادت بثلاث تطليقات ويهدم الزوج الثاني ما دون الثلاث كما يهدم الثلاث وهذا عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله».