هل تَعْلَم أحدًا من أهل العِلْمِ مقبولًا عند أهل السنة والجماعة يشترط وجودَ شهودٍ على الطَّلاق؟ وما هي مصادرُ الكتب التى تنصح بنظر هذا المبحث فيها وفيها من قالوا بوجوب الإشهاد على الطَّلاق؟
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه و من والاه؛ أما بعد:
فقد عُرِف اعتبارُ الإشهادِ شرطًا في صِحَّة الطَّلاق عند الشيعة، فقد قال الطُّوسيُّ في كتاب «الخلاف»: «كلُّ طلاقٍ لم يَحضُرْه شاهدان مسلمان عَدْلان وإن تكاملت سائرُ الشُّروط فإنه لا يقع».
ولكن جماهيرَ أهل السنة سلفًا وخَلَفًا على أن الإشهادَ ليس شرطًا في صِحَّة الطَّلاق؛ لأنه حقُّ الزَّوْج، وله أن يتصرَّفَ في حقِّه كيف يشاء. واستدلُّوا بأن المسلمين قديمًا وحديثًا كانوا يُطلِّقون ولا يُشهِدون، فدلَّ على أن قولَه تعالى: ﴿وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ﴾ [الطلاق: 2] إنما للنَّدْب، مثل قولِه تعالى: ﴿وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ﴾ [البقرة: 282].
فمن أشهد على طلاقِه فحسنٌ، ومن لم يُشهِد فلا شيءَ عليه، فالإشهاد على الطلاق مشروعٌ في الجملة، ولكنهم اختلفوا بعد ذلك في حكمه التكليفيِّ ما بين قائلٍ بوجوبه وقائلٍ بنَدْبِه، بناءً على اختلافهم في تأويل قولِه تعالى:{وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2]هل يرجع إلى الرجعة فقط، أم يرجع إلى الطَّلاق والرجعة معًا.
وجَعْلُ الإشهاد على الطَّلاق من الواجبات لا يعني كونَه شرطَ صِحَّةٍ، بل يعني أن من لم يُشهِد فقد لحقه الإثمُ وطلاقُه نافذٌ، قال ابنُ رشدٍ: «وإذا قلنا: (إن الإشهادَ واجبٌ) فمعنى ذلك أنه يكون بتَرْكِه آثمًا لتضييع الفروج وما يتعلَّق به من الحقوق، من غيرِ أن يكونَ شرطًا في صِحَّة الطَّلاق والرجعة»(1).
ومن القائلين بهذا القول شيخُ الإسلام ابن تيميَّة :، فقد قال في «الفتاوى»: «وقال تعالى: ﴿وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ﴾ [الطلاق: 2] فأمر بالإشهاد على الرجعة؛ والإشهادُ عليها مأمورٌ به باتِّفاق الأُمَّة، قيل: أمر إيجابٍ. وقيل: أمر استحبابٍ. وقد ظنَّ بعضُ الناس أن الإشهادَ هو الطَّلاق، وظنَّ أن الطَّلاقَ الذي لا يُشهَد عليه لا يقع، وهذا خلاف الإجماع، وخلاف الكتاب والسنة، ولم يقل أحدٌ مِن العلماء المشهورين به؛ فإن الطَّلاقَ أذن فيه أوَّلًا ولم يأمر فيه بالإشهاد، وإنما أمر بالإشهاد حين قال: ﴿فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ﴾ [الطلاق: 2] والمراد هنا بالمفارقة تخليةُ سبيلِها إذا قضت العِدَّة، وهذا ليس بطلاقٍ ولا برجعة ولا نكاح. والإشهاد في هذا باتِّفاق المسلمين، فعُلِم أن الإشهادَ إنما هو على الرجعة»(2).
وقد نُسب إلى بعض أهل العِلْمِ من أهل السنة قديمًا وحديثًا اعتبارُ الإشهاد شرطًا لنفوذ الطَّلاق، فقد نُسب ذلك القول إلى عِمْران بن حُصَيْن، فقد سُئل عن الرَّجُل يُطلِّق المرأةَ ثم يقع بها ولم يُشهِد على طلاقها ولا على رجعتها فقال: طلَّقتَ لغير سُنَّة ورجعتَ لغير سنة، أَشهِدْ على طلاقها وعلى رجعتها ولا تَعُدْ(3).
كما نُسب إلى عطاءٍ؛ قال ابن جُرَيْجٍ: كان عطاءٌ يقول: ﴿وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ﴾ [الطلاق: 2] قال: لا يجوز في نكاحٍ ولا طلاقٍ ولا رجاع إلا شاهِدَا عدلٍ كما قال اللهُ عز و جل ، إلا أن يكونَ من عذر(4).
وقد روى عنه عبد الرزاق وعبدُ بن حُمَيْدٍ أنه قال: النكاحُ بالشهود، والطَّلاقُ بالشهود، والمراجعة بالشهود. نقله السُّيوطيُّ في «الدُّر المنثور»(5). كما نُسب إلى ابن سيرين وابن جُرَيْجٍ رحمهم الله.
ومن المعاصرين قد نُسب هذا القول إلى الشَّيخ أحمد شاكر وإلى الشَّيخ ناصر الدين الألباني، يقول الشَّيخ أحمد شاكر في كتابه «نظام الطَّلاق في الإسلام» الذي أصدره عام 1936م: «والظَّاهِر من سياق الآيتين أن قولَه: ﴿وَأَشْهِدُوا﴾ [الطلاق: 2] راجعٌ إلى الطَّلاق وإلى الرجعة معًا، والأمر للوجوب؛ لأنه مدلولُه الحقيقيُّ، ولا ينصرف إلى غير الوجوب كالندب إلا بقرينةٍ، ولا قرينةَ هنا تصرفه عن الوجوب، بل القرائن هنا تُؤيِّد حَمْلَه على الوجوب؛ لأن الطَّلاقَ عملٌ استثنائيٌّ يقوم به الرَّجُل وهو أحدُ طَرَفِي العقد، سواءٌ أوافقته المرأةُ أم لا، كما أوضحنا ذلك مرارًا، وتترتَّب عليه حقوقٌ للرَّجُلِ قِبلَ المرأة وحقوقٌ للمرأة قِبَل الرَّجُل، وكذلك الرجعة، ويخشى الإنكار من أحدهما، فإشهادُ الشهود يرفع احتمالَ الجحد ويُثبت لكلٍّ منهما حقَّه قِبَل الآخر، فمن أشهد على طلاقه فقد أتى بالطَّلاق على الوجه المأمور به، ومن أشهد على الرجعة فكذلك، ومن لم يفعل فقد تعدَّى حدَّ الله الذي حدَّه له فوقع عملُه باطلًا لا يترتَّب عليه أيُّ أثرٍ من آثاره…».
إلى أن قال: «وهذا الذي قلنا هو قولُ ابن عباسٍ، فقد روى عنه الطبريُّ في «التفسير»: إن أراد مراجعتها قبل أن تنقضيَ عِدَّتُها أشهد رجلين كما قال الله: ﴿وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ﴾ [الطلاق: 2] عند الطَّلاق وعند المراجعة. وهو قولُ عطاءٍ أيضًا، فقد روى عنه عبد الرزاق وعبدُ بن حميد قال: النكاح بالشهود والطَّلاق بالشهود والمراجعة بالشهود. نقله السيوطيُّ في «الدر المنثور»(6).
وقد سُئل الشَّيخ ناصر الدين الألبانيُّ: هل يُعَدُّ الإشهادُ شرطًا لصحة الطَّلاق؟ فأجاب السَّائل: نعم؛ لأن هناك قاعدةً للعلماء أن الطَّلاقَ البدعيَّ مُحرَّمٌ، ثم اختلفوا هل الطَّلاق البدعيُّ يقع فيما إذا أوقعه الرَّجُل هل ينفذ أو لا ينفذ؟ قولان للعلماء: منهم من يقول: ينفذ. ومنهم من يقول: لا ينفذ. وهذا هو الأصل، أن الطَّلاقَ البدعيَّ لا يقع؛ لقوله عليهِ الصَّلاة والسَّلام: «مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ»(7) أي: مردود على صاحبه. فإذا عرفنا هذه القاعدةَ، وتذكَّرنا حديثَ عِمْران بن حُصَينٍ في «سنن أبي داود» أن السُّنَّةَ في الطَّلاق الإشهادُ، حينئذٍ يكون الطَّلاقُ بغير إشهادٍ طلاقًا بدعيًّا، يُضاف إلى هذا أنه لا يرتاب عاقلٌ في أن الطَّلاقَ بالنِّسْبة للنكاح هو كالهدم بالنِّسْبة للبناء، فإنسانٌ يبني دارًا ثم يهدمها، يبني دارًا يُنفق عليها أموالًا طائلةً وأوقاتٍ عديدةً وتكاليفَ ثم ما إذا أراد هدمها هدمها بساعةٍ من نهارٍ، الهدم أصعب من البناء؛ لأنه يُضيع على الإنسان جهودًا كثيرة وكثيرة جدًّا، النِّكاح هو بناءٌ لأسرةٍ، حينما يتزوَّج المسلمُ فإنما يضع الأساسَ لإقامة أسرةٍ مسلمة، وكلنا يعلم قولَ الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «لَا نِكَاحَ إِلَّا بِوَلِيٍّ وَشَاهِدَيْ عَدْلٍ»(8).
فأيُّ نكاحٍ لم يتحقَّق فيه الشهودُ العدول فلا يُعتبر نكاحًا شرعيًّا، وهو بناءٌ، فالطَّلاق الذي قلنا: إنه أخطر من هذا النكاح، فهو كالهدم بالنِّسْبة للبناء، العقل والنَّظَر السليم يُؤيِّد أن يُشترطَ فيه الإشهادُ، ومعنى ذلك أن إنسانًا ما قرَّر وعزم كما قال عز وجل : ﴿وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ [البقرة: 227] عَزَم على الطَّلاق، ولكن هذا الطَّلاقَ وَضَع له الشَّارعُ الحكيم شروطًا، وهذه الشُّروطُ هي في الواقع كالعرقلة لمنع وقوع هذا الطَّلاق؛ لأن الطَّلاقَ كما قلنا يترتَّب من ورائه هدمُ الأسرة. فقال: إن السُّنَّةَ الإشهادُ، فكأن الشَّارعَ الحكيم يقول للمُطلِّق: لو عزمتَ على الطَّلاق وأردت تنفيذه فَأْتِ بشاهدين، كما إذا أردتَ أن تنكح فخذ الوليَّ وَأْتِ بشاهدين، وإلا فلا نكاح لك.
هذا هو جوابُ ذاك السُّؤال، والذي يظهر أن الذي عليه جماهيرُ أهل العِلْمِ من عدم اعتبار الإشهاد شرطًا في صِحَّة الطَّلاق هو الأسعد بالصواب، لعدم الارتباط بين وجوب الإشهاد على الطَّلاق عند القائلين بوجوبه وبين اعتباره شرطَ صِحَّةٍ، بل الأمرُ كما قال ابنُ رشدٍ :: «وإذا قلنا: إن الإشهادَ واجبٌ، فمعنى ذلك أنه يكون بتَرْكه آثمًا لتضييع الفروج، وما يتعلَّق به من الحقوق، من غير أن يكون شرطًا في صِحَّة الطَّلاق والرجعة».
وفَرْقٌ بين تأثيمه وعدمِ نفاذ طلاقه. واللهُ تعالى أعلى وأعلم.
_________________
(1) انظر: «تبصرة الحكام» (1/180).
(2) «مجموع الفتاوى» (33/ 33).
(3) أخرجه أبو داود في كتاب «الطلاق» باب «الرجل يراجع ولا يشهد» حديث (2186)، وابن ماجه في كتاب «الطلاق» باب «الرجعة» حديث (2025)، وذكره عمر بن علي بن أحمد الوادياشي الأندلسي في «تحفة المحتاج» (2/402) وقال: «رواه أبو داود وابن ماجه بإسناد جيد».
(4) ذكره ابن كثير في «تفسيره» (4/380).
(5) «الدر المنثور» للسيوطي (8/194).
(6) «نظام الطَّلاق في الإسلام» ص118- 119.
(7) سبق تخريجه فالصلح مردود» حديث (2697).
(8) أخرجه ابن حبان في «صحيحه» (9/386) حديث (4075) من حديث عائشة ل، وقال: «لا يصح في ذكر الشاهدين غير هذا الخبر»، وذكره ابن الملقن في «خلاصة البدر المنير» (2/176) وقال: «هو كما قال ابن حبان، وله طرق أخرى فيها ضعف لا حاجة إليها معه».
وأما الولي فذكر فيه أحاديث؛ منها ما أخرجه أحمد في «مسنده» (6/66) حديث (24417)، وأبو داود في كتاب «النكاح» باب «في الولي» حديث (2083)، والترمذي في كتاب «النكاح» باب «ما جاء لا نكاح إلا بولي» حديث (1102)، وابن ماجه في كتاب «النكاح» باب «لا نكاح إلا بولي» حديث (1879) من حديث عائشة ل أن النبي ﷺ قال: «أَيُّمَا امْرَأَةٍ نَكَحَتْ بِغَيْرِ إِذْنِ وَلِيِّهَا فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ، فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ، فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ»، وذكره ابن الملقن في «خلاصة البدر المنير» (2/187) وقال: «رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه وابن حبان والحاكم وقال الترمذي: حسن. وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين. وقال ابن الجوزي: رجاله رجال الصحيح. وقال ابن معين: إنه أصح حديث في الباب»، وكذا صححه الألباني في «إرواء الغليل» حديث (1840).