أنا أعيش في بريطانيا وأسال عن حكم استخدام الألبسة المصنوعة من جلد الخنزير بعد دباغته (كالمعطف مثلًا)؟ أو أن أهديه لأصدقاء يعيشون في بلاد الإسلام، هل هنالك حكم قطعي أم المسألة خلافية؟ وما هو المرجح فيها؟ أفتونا مأجورين إن شاء الله.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:
فإن طهارة جلد الخنزير بالدباغ من مواضع الاجتهاد عند أهل العلم، ويتفرع القول في ذلك عن القول في مدى طهارة جلد الخنزير بالدباغ، وجمهور أهل العلم على أنه لا يطهر بالدباغ(1). وخالف في ذلك داود الظاهري وابن حزم(2)، ويروى عن أبي يوسف(3) صاحب أبي حنيفة وبعض المالكية كسحنون وابن عبد الحكَم(4) والشوكاني(5) من المتأخرين، فقالوا بطهارة جميع الجلود بالدباغ بما في ذلك الكلب والخنزير، فمن قال بطهارته أجازَ استعماله في مثل الأحذية والمعاطف ونحوها، ومن قال بعدم طهارته منع من ذلك.
وبعض من قال بعدم تطهير الدباغ لجلد الخنزير قالوا بجواز الانتفاع به في اليابسات دون المائعات، وهو رواية عن الحنابلة(6). ومعنى ذلك: أنه يصح أن يكون وعاء يوضع به الحبوب، كما يشمل ذلك استعماله في اللبس كالحذاء وغيره.
وعلى هذا فإن هذا الأمر من مسائل الاجتهاد، ولا يخفى أن الأمر في الجلد أوسع منه في اللحم الذي اتفق أهل العلم على تحريمه بلا نزاع.
والذي يظهر لنا أن جلود الميتة جميعها تطهر بالدباغ على القول الراجح من أقوال العلماء، لما في «صحيح مسلم» عن ابن عباس ب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إِذَا دُبِغَ الْإِهَابُ فَقَدْ طَهُرْ»(7). وفي رواية أصحاب السنن: «أَيُّمَا إِهَابٍ دُبِغَ فَقَدْ طَهُرْ»(8).
والله تعالى أعلى وأعلم.
______________
(1) جاء في «نصب الراية» للزيلعي من كتب الحنفية (1/92-95): «(وكل إهاب دبغ فقد طهر وجازت الصلاة فيه والوضوء منه إلا جلد الخنزير والآدمي)».
وفي «شرح مختصر خليل» للخرشي من كتب المالكية (1/89-90): «(ص) وجلد ولو دُبِغ (ش) يعني: أن جلد الميتة والجلد المأخوذ من الحي نجس ولو دبغ على المشهور المعلوم من قول مالك، لا يجوز بيعه ولا يُصلَّى عليه. قاله ابن رشد، ولا يؤثر دبغه طهارة في ظاهره ولا باطنه. (ص) ورُخِّص فيه مطلقًا إلا من خنزير بعد دبغه في يابس وماء (ش) … يعني أن الإمام رخص في استعمال جلد الميتة بعد دبغه كان من ميتة مباح كالبقر أو محرم كالحمار ذكي أم لا في اليابسات… وهذا الترخيص في غير جلد الخنزير، أما هو فلا يُرخَّص فيه لا في يابسات ولا في ماء ولا غير ذلك؛ لأن الذكاة لا تفيد فيه إجماعًا فكذلك الدباغ خلافًا لما شهره ابن الفرس في أحكام القرآن من أنه كغيره».
وقال الخطيب الشربيني في «شرح أبي شجاع» (1/99-105): «(وجلودُ) الحيوانات (الميتة) كلها (تطهر) ظاهرًا وباطنًا (بالدباغ) ولو بإلقاء الدابغ عليه بنحو ريح أو بإلقائه على الدابغ… (إلا جلد الكلب والخنزير) فلا يطهره الدبغ قطعًا، لأن الحياة في إفادة الطهارة أبلغ من الدبغ والحياة لا تفيد طهارته»
(2) قال ابن حزم في «المحلى» (1/128-133): «مسألة: وتطهير جلد الميتة، أي ميتة كانت، ولو أنها جلد خنزير أو كلب أو سبع أو غير ذلك- فإنه بالدباغ بأي شيء دبغ طاهر، فإذا دبغ حَلَّ بيعه والصلاة عليه، وكان كجلد ما ذكي مما يحل أكله، إلا أن جلد الميتة المذكور لا يحل أكله بحال، حاشا جلد الإنسان، فإنه لا يحل أن يدبغ ولا أن يسلخ، ولا بد من دفنه وإن كان كافرًا».
(3) قال الكاساني في «بدائع الصنائع» (1/85-86): «وروي عن أبي يوسف أن الجلود كلها تطهر بالدباغ لعموم الحديث»
(4) جاء في «شرح مختصر خليل» للخرشي من كتب المالكية (1/89-90): «(قوله: على المشهور) مقابل المشهور خمسة أقوال: من جملتها أن الدباغ مطهر لجميع ذلك ولو من خنزير. قاله سحنون وابن عبد الحكم».
(5) قال الشوكاني في «نيل الأوطار» (1/81-86): «وقد اختلف أرباب العلم في ذلك على أقوال سبعة… المذهب السادس: يطهر الجميع والكلب والخنزير ظاهرًا وباطنًا، قال النووي: وهو مذهب داود وأهل الظاهر، وحكي عن أبي يوسف وهو الراجح كما تقدم؛ لأن الأحاديث الواردة في هذا الباب لم يفرق فيها بين الكلب والخنزير وما عداهما».
وقال ابن قدامة في «المغني» (1/49-50): «(وكل جلد ميتة دبغ أو لم يدبغ فهو نجس)، لا يختلف المذهب في نجاسة الميتة قبل الدبغ، ولا نعلم أحدًا خالف فيه، وأما بعد الدبغ فالمشهور في المذهب أنه نجس أيضًا، وهو إحدى الروايتين عن مالك، ويروى ذلك عن عمر وابنه عبد الله بن عمر رضي الله عنهما وعمران بن حصين، وعائشة رضي الله عنهم. وعن أحمد رواية أخرى: أنه يطهر منها جلد ما كان طاهرًا في حال الحياة. وروي نحو هذا عن عطاء، والحسن، والشعبي، والنخعي، وقتادة، ويحيى الأنصاري، وسعيد بن جبير، والأوزاعي، والليث، والثوري، وابن المبارك، وإسحاق، وروي ذلك عن عمر، وابن عباس، وابن مسعود، وعائشة رضي الله عنهم، مع اختلافهم فيما هو طاهر في الحياة، وهو مذهب الشافعي، وهو يرى طهارة الحيوانات كلها، إلا الكلب والخنزير، فيطهر عنده كل جلد إلا جلدهما. وله في جلد الآدمي وجهان. وقال أبو حنيفة: يطهر كل جلد بالدبغ إلا جلد الخنزير. وحكي عن أبي يوسف: أنه يطهر كل جلد، وهو رواية عن مالك، ومذهب مَن حَكَم بطهارة الحيوانات كلها».
(6) جاء في «المبدع» (1/50-53): «(ولا يطهر جلد الميتة) أي : الذي نجس بموتها (بالدباغ) … (وهل يجوز استعماله في اليابسات) … (بعد الدبغ على روايتين) كذا في ابن تميمٍ ، وفي المغني، والشرح، وخصَّاه بجلد طاهرٍ حال الحياة، وبعضهم حكاهما قبله، وإن كان جلد كلبٍ أو خنزيرٍ… فرعٌ: اختلف قول أحمد في جواز الخرز بشعر الخنزير، وفي كراهته روايتان. وقيل: لا يجوز الخرز برطبه، وفي يابسه الخلاف، فإن خرز برطبه وجب غسله».
(7) أخرجه مسلم في كتاب «الحيض» باب «طهارة جلود الميتة بالدباغ» حديث (366)
(8) أخرجه أحمد في «مسنده» (1/219) حديث (1895)، وأبو داود في كتاب «اللباس» باب «في أهب الميتة» حديث (4123)، والترمذي في كتاب «اللباس» باب «ما جاء في جلود الميتة إذا دبغت» حديث (1728)، والنسائي في كتاب «الفرع والعتيرة» باب «جلود الميتة» حديث (4241)، والدارمي في كتاب «الأضاحي» باب «الاستمتاع بجلود الميتة» حديث (1985). وقال الترمذي: «حسن صحيح… والعمل على هذا عند أكثر أهل العلم وهو قول سفيان الثوري وابن المبارك والشافعي وأحمد وإسحاق»، وصححه الألباني في «صحيح وضعيف الترمذي» حديث (1728).