هل تُمنع الحائضُ من المكث في المسجد لحديث العيد: «أَنْ يَعْتَزِلْنَ الْـمُصَلَّى»(1 )؟ أم أنه يعني وقتَ الصَّلاة فقط؛ لأن الحديثَ في العيد والصَّلاة مُقامة في الخلاء؛ فهو ليس بمسجدٍ ثابتٍ، كما أن المسجدَ قد يُطلَق على الأرض كلِّها للحديث(2). وهل إذا كانت هناك غرفة مُخصَّصة للصَّلاة للنساء في الكُلِّيَّة هل يجوز ذلك؟ مع العِلْمِ أنه المكان الوحيد المُخصَّص للفتيات داخل الكُلِّيَّة.
______________
(1) أخرجه البخاري في كتاب «الجمعة» باب «إذا لم يكن لها جلباب في العيد» حديث (980)، ومسلم في كتاب «صلاة العيدين» باب «ذكر إباحة خروج النساء في العيدين إلى المصلى» حديث (890)، من حديث أم عطية ل قالت: أمرنا رسول الله أن نُخرجهن في الفطر والأضحى العواتقَ والـحُيَّض وذواتَ الخدور، فأما الُحيض فيعتزلنَ الصلاة ويشهدن الخيرَ ودعوةَ المسلمين.
(2) أخرجه البخاري (438) قال : «أُعطيتُ خمسًا ، لم يُعطَهنَّ أحدٌ منَ الأنبياءِ قَبلي : نُصِرتُ بالرُّعبِ مَسيرةَ شهرٍ ، وجُعِلَتْ لي الأرضُ مسجدًا وطَهورًا ، وأيُّما رجلٍ من أُمَّتي أدرَكَتْه الصلاةُ فلْيُصلِّ ، وأُحِلَّتْ لي الغَنائمُ ، وكان النبيُّ يُبعَثُ إلى قومِه خاصةً ، وبُعِثتُ إلى الناسِ كافةً ، وأُعطيتُ الشفاعةَ».
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه و من والاه؛ أما بعد:
ففي مَنْع الحائض من المكث في المسجد خلاف فقهيٌّ، والجمهور على منع ذلك، فلم يُجيزوا للحائض أن تمكث في المسجد(1).
وأما مرورُها بالمسجد فلا بأس به عندهم(2)، بشرط أن تأمن تلويثَ المسجد مما يخرج منها من الدم، وإذا كان لا يجوز لها أن تبقى في المسجد، فإنه لا يَحِلُّ لها أن تذهب لتستمع إلى حِلَق الذِّكر وقراءة القُرْآن، اللهمَّ إلا أن يكون هناك موضعٌ خارج المسجد يصل إليه الصوت بواسطة مُكبِّر الصوت، فلا بأس أن تجلس فيه لاستماع الذِّكر.
وأجازه بعضُ أهل العِلْمِ إذا وُجد مقتضٍ كحضور مجلس علمٍ أو نحوه، ومنهم زيد بن ثابت، وهو مذهب داود المُزَني وابن حزم، واحتجُّوا بأدلةٍ منها: ما رواه البخاري عن عائشة أم المؤمنين ل: أن وليدةً سوداء كانت لِحَيٍّ من العرب فأعتقوها، فجاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلمت فكان لها خباء في المسجد أو حفش(3).
وقال أبو محمد بن حزم في «المحلى»: «قال علي: فهذه امرأة ساكنة في مسجد النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم ، والمعهودُ من النِّساءِ الـحَيْضُ، فما منعها صلى الله عليه وسلم من ذلك ولا نَهَى عنه، وكلُّ ما لم ينهَ صلى الله عليه وسلم عنه فمُباح»(4).
ولو كان دخولُ المسجد لا يجوز للحائض لأخبر بذلك صلى الله عليه وسلم عائشة إذ حاضت، فلم يَنْهَها إلا عن الطواف بالبيت فقط، ومن الباطل المُتيقَّن أن يكون لا يَحِلُّ لها دخولُ المسجد فلا ينهاها صلى الله عليه وسلم عن ذلك ويقتصر على منعها من الطواف.
ومنها: ما رواه الجماعة عن عائشة ل قالت: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : «نَاوِلِينِي الْـخُمْرَةَ مِنَ الْـمَسْجِدِ». فقلت: إني حائض. فقال: «إِنَّ حَيْضَتَكِ لَيْسَتْ فِي يَدِكِ»(5).
قال الشوكاني في «نيل الأوطار»: «والحديث يدلُّ على جواز دخول الحائض المسجد للحاجة، ولكنه يتوقَّف على تعلُّق الجارِّ والمجرور، أعني قولَه «مِنَ الْـمَسْجِدِ» بقوله «نَاوِلِينِي»(6).
وقد قال بذلك طائفةٌ مِن العلماء، واستدلُّوا به على جواز دخول الحائض المسجد للحاجة تَعرِض لها إذا لم يكن على جسدها نجاسةٌ، وأنها لا تمنع من المسجد إلا مخافة ما يكون منها.
هذا وقد ناقش مجمعُ فقهاء الشَّريعة بأمريكا في دورة مؤتمره السَّادس في مونتريال بكندا هذا الموضوع في جملة ما ناقشه من نوازل، وانتهى إلى هذا القرار الذي نسوقه لك بنصِّه:
يُرخَّص للحائض في دخول المسجد والجلوس فيه لسماع المحاضرات وتلقِّي العلم، مع التَّحوُّط والتَّحفُّظ لطهارة المسجد، عملًا بروايةٍ في مذهب الإمام أحمد :(7)، وبه قال الـمُزَنيُّ صاحبُ الشَّافعيِّ وداودُ وابنُ حزمٍ(8)، وينبغي توفيرُ قاعةٍ تكون مُلحَقةً بالمساجد ومُخصَّصة لأصحاب الأعذار الشَّرْعيَّة خروجًا من الخلاف.
ولعلَّ هذا هو الرَّاجح الذي نُفتي به، وإذا جاز هذا في المسجد جاز في المُصلَّى المذكور من باب أولى. واللهُ تعالى أعلى وأعلم.
_________________
(1) قال العدوي في «الشرح الكبير» من كتب المالكية (1/172- 174): «ثم بيَّن موانع الحيض بقوله: (ومنع) الحيض (صحة صلاة وصوم… (و) منع (دخول مسجد) إلا لعذر كخوف على نفس أو مال».
وقال الرملي الشافعي في «نهاية المحتاج» (1/327-333): «(ويحرم به) أي: بالحيض (ما يحرم بالجنابة) من صلاة وغيرها لكونه أغلظ منها؛ بدليل أنه يحرم به أمور زيادة على ما يحرم بها كما أشار إليه بقوله: (وعبور المسجد إن خافت تلويثه صيانة له عن تلويثه بالنجاسة، فإن أمنت تلويثه جاز لها العبور مع الكراهة) كما في «المجموع» ومحلها عند انتفاء حاجة عبورها ولا يختص ما ذكره بها، فمَن به حدث دائم كمستحاضة وسلس بول ومن به جراحة نضاخة بالدم أو كان منتعلًا بنعل به نجاسة رطبة وخشي تلويث المسجد بشيء من ذلك فله حكمها، وخرج بالمسجد غيره كمصلى العيد والمدرسة والرباط فلا يكره ولا يحرم عبوره على من ذكر».
وفي «الإنصاف» للمرداوي الحنبلي (1/347-349): «قوله: (واللبث في المسجد). تمنع الحائض من اللبث في المسجد مطلقًا، على الصحيح من المذهب وعليه جمهور الأصحاب».
(2) جاء في «البناية» من كتب الحنفية (1/641-644): «وفي «شرح الوجيز» في العبور وجهان: لو خافت تلويث الدم إما لغلبة الدم، وإما أنها لم تستوثق، فليس لها العبور صيانة له، وكذا المستحاضة ومن به سلس البول، فإن أمنت التلويث فيه وجهان: أحدهما: لا يجوز لإطلاق الحديث وأصحهما الجواز».
وقال الرملي الشافعي في «نهاية المحتاج» (1/327-333): «فإن أمنت تلويثه جاز لها العبور مع الكراهة)».
وجاء في «الإنصاف» من كتب الحنابلة (1/347-349): «تنبيه: ظاهر كلام المصنف- أنها لا تمنع من المرور منه، وهو المذهب مطلقا إذا أمنت التلويث. وقيل: تمنع من المرور. وحكى رواية. وأطلقهما في الرعاية. وقيل: لها العبور لتأخذ شيئا، كماء وحصير ونحوها. لا لتترك فيه شيئًا، كنعش ونحوه. وقدم ابن تميم جواز دخول المسجد لها لحاجة. وأما إذا خافت تلويثه: لم يجز لها العبور على الصحيح من المذهب».
(3) أخرجه البخاري في كتاب «الصلاة» باب «نوم المرأة في المسجد» حديث (439)
(4) «المحلى» (2/186).
(5) أخرجه مسلم في كتاب «الحيض» باب «جواز غسل الحائض رأس زوجها وترجيله وطهارة سؤرها والاتكاء في حجرها وقراءة القرآن فيه» حديث (298).
(6) «نيل الأوطار» (1/286).
(7) قال في «الإنصاف» (1/347-349): «قوله (واللبث في المسجد) تمنع الحائض من اللبث في المسجد مطلقًا، على الصحيح من المذهب وعليه جمهور الأصحاب. وقيل: لا تمنع إذا توضأت وأمنت التلويث، وهو ظاهر كلام المصنف في باب الغسل…تنبيه: ظاهر كلام المصنف أنها لا تمنع من المرور منه، وهو المذهب مطلقًا إذا أمنت التلويث. وقيل: تمنع من المرور. وحكى رواية وأطلقهما في الرعاية. وقيل: لها العبور لتأخذ شيئًا، كماء وحصير ونحوها، لا لتترك فيه شيئًا، كنعش ونحوه. وقدم ابن تميم جواز دخول المسجد لها لحاجة. وأما إذا خافت تلويثه: لم يجز لها العبور على الصحيح من المذهب، قال في الفروع: تمنع في الأشهر. وقيل: لا تمنع. ونص أحمد في رواية ابن إبراهيم: تمر، ولا تقعد وتقدم في باب الغسل ما يسمى مسجدًا وما ليس بمسجد. وتقدم أيضا هناك: إذا انقطع دمها وتوضأت ما حكمه».
(8) قال ابن حزم في «المحلى» (1/400-402): «مسألة: وجائز للحائض والنفساء أن يتزوجا وأن يدخلا المسجد وكذلك الجنب، لأنه لم يأت نهي عن شيء من ذلك… وهذا قول المزني وداود وغيرهما، وبالله تعالى التوفيق».