حول التسليمة الثانية في الصلاة

حدث جدال بيننا حول التسليمة الثانية في الصلاة، هل لابد منها لصحة الصلاة؟ أم تكفي التسليمة الأولى؟ وما حكم كل منهما؟ أفتونا مأجورين.

الجواب
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه؛ أما بعد:
فقد اتفق جماهير أهل العلم(1) على أن التسلمية الثانية سُنةٌ وليست فريضةً، بل نقل ابن المنذر الإجماعَ على ذلك(2)، وقيل بفرضيتهما وهذا هو المشهور من مذهب الحنابلة(3).
ومن أدلة الحنابلة على ذلك محافظته صلى الله عليه وسلم على التسليمتين حضرًا وسفرًا، في حـضـور البوادي، والأعــراب، والعالم، والجاهل مع قوله: «صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي»(4). وقوله صلى الله عليه وسلم: «إنَّمَا كَانَ يَكْفِي أَحَدَكُمْ أَنْ يَضَعَ يَدَهُ عَلَى فَخِذِهِ وَيُسَلِّمُ عَلَى أَخِيهِ مِنْ عَلَى يَمِينِهِ وَمِنْ عَلَى شِمَالِهِ»(5). وقالوا: إن ما دون الكفاية لا يكون مجزيًا(6).
ومن أدلة الجمهور على سُنِّيَّة التسليمة الثانية أنه صلى الله عليه وسلم سَلَّم في الوتر تسليمةً واحدةً تِلقاء وجهه(7). فقد روى الإمام أحمدُ عن عائشة رضي الله عنها في صِفة صلاة وِتْر رسولِ الله صلَّى الله عليه وسلَّم قالتْ: “… ثُمَّ يَجلس فيتشهَّد ويدعو، ثُمَّ يُسلّم تسليمةً واحدة: السَّلام عليْكم، يَرفع بها صوتَه حتَّى يوقظَنا”. ولو كان تَحليل الصلاة لا يتمُّ إلا بتَسليمَتَيْنِ اثنتَيْنِ لَما اكتفى رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم بِالخروج من الصَّلاة بتسليمةٍ واحدة؛
قال النَّووي في “المجموع”: “مذهبُنا الواجب تسليمةٌ واحدة ولا تَجِبُ الثَّانية، وبه قال جُمهور العُلماء أو كلُّهم، قال ابْنُ المنذر: أجْمع العُلماءُ على أنَّ صلاةَ مَنِ اقتصر على تسليمةٍ واحدة جائزةٌ، وحكى الطَّحاوي والقاضى أبو الطَّيّب وآخَرونَ عنِ الحَسَن بْن صالحٍ أنَّه أوجَبَ التَّسليمَتَيْن جَميعًا، وهي روايةٌ عن أحْمد، وبِهما قال بعضُ أصحاب مالك، والله أعلم”.
وقال ابنُ قُدامة في “المغني”: “الواجبُ تسليمةٌ واحدةٌ, والثَّانية سُنَّة، قال ابنُ المُنذر: أجْمع كُلُّ مَن أحفَظُ عنْهُ من أهل العِلْمِ, أنَّ صلاةَ منِ اقْتَصر على تسليمةٍ واحدة, جائزةٌ, وقال القاضي: فيه روايةٌ أخرى؛ أنَّ الثَّانية واجبة. وقال: هي أصحّ لحديث جابر بن سَمرة, ولأنَّ النَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم كان يفعلُها ويُداوِم عليْها, ولأنَّها عِبادة لها تَحلّلان, فكانا واجبَيْنِ, كتحلّلي الحج, ولأنَّها إحدى التَّسليمتَيْنِ فكانتْ واجبة كالأولى، والصَّحيح ما ذكرناه، وليس نصُّ أحْمد بصريحٍ بوجوبِ التَّسليمتَيْن إنَّما قال: التسليمتانِ أصحُّ عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وحديثُ ابْنِ مَسعودٍ وغيْره أذهبُ إليه)
ويبقى الاحتياط في الإتيان بالتسليمتين، خروجًا من الخلاف واحتياطًا للدين ومتابعةً للغالب من هديه صلوات ربي وسلامه عليه، فالإتيان بهما أتبع وأقعد.
ويبقى التنبيه على أن المسائل الاجتهادية لا يُضيَّق فيها على المخالف، من ظهر له رجحان أحد القولين عمل به ولم ينكر على من ظهر له رجحان القول الآخر، فإنه لا إنكار في موارد الاجتهاد، والحرص على الجماعة والائتلاف وسلامة الصدور من الشحناء هو المقصود الأسمى في مثل ذلك. والله تعالى أعلى وأعلم.

__________________
(1) جاء في «البجر الرائق شرح كنز الدقائق» (1/311) من كتب الحنفية، في واجبات الصلاة: «والخروج بصنعه) أي الخروج من الصلاة قصدا من المصلي بقول أو عمل ينافي الصلاة بعد تمامها فرض، سواء كان ذلك قوله السلام عليكم ورحمة الله كما تعينه لذلك هو الواجب، أو كان فعلا مكروها كراهة تحريم ككلام الناس أو أكل أو شرب أو مشي».
وجاء في «مواهب الجليل» (1/531) من كتب المالكية: «(الحادي عشر) كل من أثبت التسليمة الثانية فإنه يقول: إنها غير واجبة إلا أحمد بن حنبل».
وجاء في «كفاية الأخيار» (ص117) من كتب الشافعية: «وتستحب التسليمة الثانية لأنه عليه الصلاة والسلام (كان يسلم عن يمينه وعن يساره)».
(2) جاء في «الإجماع» (ص39) لابن المنذر: «وأجمعوا على أن صلاة من اقتصر على تسليمة واحدة جائزة».
(3) جاء في «الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف» (2/117): «(والتسليمة الثانية في رواية) وكذا قال في الهادي، والمذهب الأحمد، وهذه إحدى الروايات مطلقا جزم بها في الإفادات، والتسهيل قال القاضي: وهي أصح، وقال في الجامع الصغير: وهما واجبان، لا يخرج من الصلاة بغيرهما وصححها ناظم المفردات، وهو منها وقدمها في الفائق، والرواية الثانية: أنها ركن مطلقا كالأولى جزم به في المنور، والهداية في عد الأركان وقدمه في التلخيص، والبلغة، والرعايتين، والحاويين، والنظم، والزركشي، وإدراك الغاية قال في المذهب: ركن في أصح الروايتين وصححها في الحواشي واختاره أبو بكر، والقاضي، والأكثرون».
(4) أخرجه البخاري في كتاب «الأذان» باب «الأذان للسفر إذا كانوا جماعة والإقامة» حديث (631) من حديث مالك بن الحويرث رضي الله عنه.
(5) أخرجه مسلم في كتاب «الصلاة» باب «الأمر بالسكون في الصلاة» حديث (431) من حديث جابر بن سمرة رضي الله عنه.
(6) «المغني» لابن قدامة (1/396).
(7) أخرجه الدارمي في كتاب «الصلاة» باب «صفة صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم» حديث (1475) من حديث عائشة رضي الله عنها.

تاريخ النشر : 29 سبتمبر, 2025
التصنيفات الموضوعية:   02 الصلاة

فتاوى ذات صلة:

Send this to a friend