الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد المرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
كما تعلمون فإن كثيرًا من أبناء الشعب الفلسطيني المسلم يُزَجُّ بهم في سجون الاحتلال، وكنتُ واحدًا منهم، وقد واجهتني مُعضلة شرعية ألا وهي تعدُّد صلاة الجمعة، وكذا صلاة العيد في السجن الواحد، فقد كنت مسجونًا في معتقل (عوفر) بالقرب من مدينة رام الله، وهذا المعتقل قُدرَّت مساحتُه بحوالي كيلو متر مربع، وهو مقسم إلى عشرةِ أقسام متجاورة، ويفصِل بين القسم والآخر أسلاكٌ شائكة متعددة، عرضُها أربعة أمتار تقريبًا، ويوجد حوالي ألف معتقل في هذا المعتقل يعني حوالي مائة معتقل في كل قسم منها، وتقام صلاة الجمعة في كل قسم على انفراد وكذا صلاة العيد أي عشر جمع وعشر صلوات عيد.
وهنا مجموعة ملاحظات:
لا يمكن من الناحية العملية إقامة جمعة واحدة؛ لأن قوات الاحتلال لا تسمح بذلك، ولا يمكن من الناحية العملية إقامة جمعتين لقسمين متجاورين؛ لأن طبيعة أقسام السجن لا تسمح بجلوس المعتقلين من القسمين المتجاورين على جانبي الشبك الشائك. يرى المعتقلون وخاصة المشايخ منهم أنه لابد من إقامة صلاة الجمعة وكذا صلاة العيد وإن تعددتا؛ لما للصلوات من آثار نفسية كبيرة في نفوس المعتقلين. ولا يخفى عليكم ما لصلاة الجمعة من دور في حياة المسلم وخاصة المعتقل. هذه الحالة تتكرر في جميع السجون والمعتقلات الصهيونية التي تضم أكثر من عشرة آلاف معتقل. ليس هنالك إلا خياران: إما تعدد الجمعة أو القول بأن لا جمعة في السجون، كنت أميل إلى أنه لا جمعة على السجين حتى دخلتُ السجن ولمست بنفسي الأثر العظيم الذي تتركه صلاة الجمعة في نفوس المعتقلين. وكذلك صلاة العيد وما يصحبها من التكبير الذي يرفع معنويات المعتقلين… إلخ. أرجو التكرم بالجواب المفصَّل في هذه الواقعة حيث إن إخوانكم المعتقلين ينتظرون الجواب. وجزاكم الله خير الجزاء.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:
يثير سؤالك هذا قضيتين: الأولى هي مدى وجوب الجمعة على السجين، والثانية مدى مشروعية تعدد الجمعة في المصر الواحد.
أما الأولى: فلا يبدو أن الحديث عن مدى وجوب الجمعة على السجين، وإنما عن مدى صحتها منه، والجواب أن الجمعة تصح من السجين إن قدر على أدائها؛ لأن التكليف بها عام يشمل السجين وغيره، ولما ورد في السؤال من الآثار الطيبة التي تتركها الجمعة في نفوس السجناء، نسأل الله لنا ولهم العافية، وقد جاء في «طبقات الشافعية الكبرى» أن الإمام أحمد : كان يصلي بأهل السجن عندما سجن في فتنة القول بخلق القرآن، وكان يقول: إني كنت أصلي بأهل السجن وأنا مقيَّد. وكان الإمام البويطي : وهو في الحبس بسبب هذه الفتنة يغتسل كل جمعة ويتطيب ويغسل ثيابه، ثم يخرج إلي باب السجن إذا سمع النداء، فيرده السجَّان، ويقول: ارجع رحمَك الله، فيقول البويطي: اللهم إني أجبتُ داعيَك فمنعوني.
فإن عجز عن أدائها سقطت عنه إلى بدلها، وهو الظُّهر، وهذا حكم عام يشمل كل عاجز سجينًا كان أو غير سجين، ويؤديها السجناء قدر الطاقة لقوله تعالى: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن: 16].
ولمَّا كان هذا القول يُفضي إلى تعدد الجمعة، فإن هذا يقودنا إلى النقطة الثانية وهي مدى جواز تعدد الجمعة في المصر الواحد.
والجواب عن ذلك أنه قد اختلف أهل العلم في ذلك على أقوال يمكن ردُّها إلى ثلاثة:
الأول: أن التعدد ممنوع مطلقًا.
الثاني: أنه جائز بقدر الحاجة.
الثالث: أنه يجوز مطلقًا من غير حاجة. وهو قول عطاء وداود وابن حزم والشوكاني.
واحتج القائلون بمنع التعدد مطلقًا بما يلي:
– أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يُجمِّع إلا في مسجد واحد، وكذلك الخلفاء بعده، ولو جاز لم يعطلوا المساجد. حتى إن الإمام أحمد سُئِل عن تعدد الجمعة؟ فقال: ما علمتُ أنه صُلي في المسلمين أكثر من جمعة واحدة.
– ما نقله ابن حجر عن ابن عساكر في مقدمة «تاريخ دمشق»: «أن عمر كتب إلى أبي موسى وإلى عمرو بن العاص وإلى سعد بن أبي وقاص أن يتخذوا مسجدًا جامعًا للقبائل، فإذا كان يوم الجمعة انضموا إلى المسجد الجامع فشهدوا الجمعة». قالوا: فلو لم يكن الموضع الواحد شرطًا في صحتها لما أمرهم عمر رضى الله عنه بتحمُّل هذه المشقة الناتجة عن تركهم لقبائلهم واجتماعهم في المسجد الكبير الجامع.
– أن القول بتعدد الجمعة يؤدي لفوات المقصود الأعظم وهو اجتماع المسلمين وائتلافهم.
واحتج القائلون بجواز التعدد مطلقًا بالآتي:
– قول عمر: جَمِّعوا حيث كنتم.
– لو كان منع التعدد شرطًا لصحة الجمعة لبيَّنه النبي صلى الله عليه وسلم لصحابته؛ لأن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز.
– القياس على جواز التعدُّد في صلاة العيد، فكان عليٌّ يخرج يوم العيد إلى المصلى ويستخلف على ضَعَفة الناس أبا مسعود فيصلي بهم، فتُقاس الجمعةُ على العيد بجامع أن كليهما صلاة شُرِع لها الاجتماع والخطبة.
– أن في القول بإقامة الجمعة في موضع واحد حرجًا بينًا، والحرج مدفوع شرعًا. قال الشوكاني: «هذه المسألة- تعدد الجمعة- قد اشتهرت بين أهل المذاهب، وتكلموا فيها، وصنف فيها من صنف منهم، وهي مبنية على غير أساس، وليس عليها إشارة من علم قط، وما ظنه بعض المتكلمين من كونه دليلًا عليها هو بمعزِل من الدلالة، وما أوقعهم في هذه الأقوال الفاسدة إلا ما زعموه من الشروط التي اشترطوها بلا دليل ولا شبهة دليل».
فالحاصل أن صلاة الجمعة صلاة من الصلوات، يجوز أن تقام في وقت واحد كما تقام جماعات سائر الصلوات في المصر الواحد، ولو كانت المساجد متلاصقة. ومن زعم خلاف هذا، فإن كان مستند زعمه مجرد الرأي، فليس ذلك بحجة على أحد، وإن كان مستند زعمه الرواية فلا رواية.
وأما ترك النبي صلى الله عليه وسلم إقامة جمعتين فلِغِنَاهم عن إحداهما، ولأن أصحابه كانوا يرون سماع خطبته وشهود جمعته وإن بعدت منازلهم؛ لأنه المبلِّغ عن الله تعالى، وشارع الأحكام، ولمَّا دعت الحاجة إلى ذلك في الأمصار صليت في أماكن، ولم يُنكر، فصار إجماعًا.
واحتج القائلون بجواز التعدُّد للحاجة، بأدلة القول الأول، إلا أنهم حملوها على أنه لم يكن هناك حاجةٌ لتعدد الجمعة، فلما دعت الحاجة إلى ذلك في الأمصار صليت في أماكن ولم ينكر فصار إجماعًا. قال ابن قدامة: «فأما مع عدم الحاجة فلا يجوز أكثر من واحدة، وإن حصل الغنى باثنتين لم تجز الثالثة، وكذلك ما زاد، لا نعلم في هذا مخالفًا إلا أن عطاء قيل له: إن أهل البصرة لا يسعهم المسجد الأكبر. قال: لكل قوم مسجد يجمعون فيه، ويجزئ ذلك من التجميع في المسجد الأكبر. وما عليه الجمهور أولى؛ إذ لم يُنقَل عن النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه أنهم جمعوا أكثر من جمعة؛ إذ لم تدعُ الحاجة إلى ذلك، ولا يجوز إثبات الأحكام بالتحكم بغير دليل».
قال ابن عثيمين :: والمراد بالحاجة هنا ما يشبه الضرورة، ومثل الحاجة إذا ضاق المسجد عن أهله ولم يمكن توسيعه، وكذا إذا تباعدت أقطار البلد وصار الناس يشُقُّ عليهم الحضور فهذا أيضًا حاجة. ومن الحاجة أيضًا أن يكون بين أطراف البلد حزازات وعداوات يخشى إذا اجتمعوا في مكان واحد أن تثور فتنة، فهنا لا بأس أن تعدد الجمعة، لكن هذا مشروط بما إذا تعذر الإصلاح، أما إذا أمكن الصلح وجب الإصلاح، وتوحيدهم على إمام واحد. وليس من الحاجة أن يكون الإمام مسبلًا أو فاسقًا؛ لأن الصحابة صلوا خلف الحجاج بن يوسف، وهو من أشد الناس ظلمًا وعدوانًا يقتل العلماء والأبرياء.
ولعل هذا القول الأخير هو أولى الأقوال في هذه المسألة بالصواب، والحاجة في هذه النازلة ظاهرة، بل تشبه الضرورة لظروف السجن التي لا تخفى على أحد.
والخلاصة: أن الجمعة تصح من السجين، متى قدر على ذلك، وأنه لا حرج في تعددها بحسب الحاجة. والله تعالى أعلى وأعلم.
تعدد الجمعة في السجن
تاريخ النشر : 30 يناير, 2012
التصنيفات الموضوعية: 02 الصلاة