سوف أعتكف بإذن الله في العشر الأواخر من رمضان، ويُريد إمام مسجدٍ آخر أن أُساعده في التهجد في العشر الأواخر في الصَّلاة بأن أصلي بالناس. فهل يجوز أن أترك الـمُعتكَف وأصلي بالنَّاس في مسجد آخر ثم أرجع للمعتكف؟ وما رأي فضيلتكم في قول الإمام الألباني: إنه لا يصحُّ الاعتكاف إلا في المساجد الثلاثة فقط؟ وهل يُعمل بهذا القول؟ مع العِلْمِ بأنني أرتاح لهذا القول وان لم أعمل به. وجزاكم اللهُ خَيْرًا.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه و من والاه؛ أما بعد:
فإن الاعتكاف هو الـمُكث في المسجد لطاعة الله تعالى، فهو قطع العلائق عن الخلائق والاشتغال بخدمة الخالق، فخروج الـمُعتكِف من المسجد يُبطل الاعتكاف، إلا إذا خرج لما لابُدَّ منه، كقضاء الحاجة والوضوء والاغتسال وإحضار الطعام إذا كان ليس له من يُحضره له إلى المسجد، ونحو ذلك من الأمور التي لابُدَّ منها ولا يُمكن فِعلُها في المسجد؛ فقد روى البخاري ومسلم عن عائشةَ ل قالت: كان رسولُ الله ﷺ لا يَدخُل البيتَ إلا لحاجةِ الإنسان إذا كان مُعتَكِفًا(1).
قال ابن قدامة : في «المغني»: «والمراد بحاجة الإنسان البول والغائط؛ كنى بذلك عنهما لأن كلَّ إنسانٍ يحتاج إلى فعلهما، وفي معناه الحاجة إلى المأكول والمشروب إذا لم يكن له من يأتيه به، فله الخروج إليه إذا احتاج إليه، وكلُّ ما لابد له منه ولا يُمكن فِعلُه في المسجد فله الخروج إليه، ولا يَفسُد اعتكافُه وهو عليه ما لم يُطِل»(2). اهـ.
وخروج الـمُعتكِف لعمله مما يُنافي الاعتكاف، وإذا كانت السُّنة ألا يزور المعتكِف مريضًا أثناء اعتكافه ولا يُجيب الدعوة ولا يقضي حوائج أهله ولا يشهد جِنازة ولا يذهب إلى عمله خارج المسجد؛ لـمَا ثبت عن عائشة ل أنها قالت: السنة على المعتكف أن لا يعود مريضًا ولا يشهد جنازة ولا يمس امرأة ولا يباشرها ولا يخرج لحاجة إلا لما لابُدَّ منه(3)؛ فإنه من باب أولى لا ينبغي له أن يخرج لصلاة التهجد في مسجدٍ آخر، فإذا نويتَ الاعتكاف فاجمع قلبك عليه، ولا تخرج إلا لما لابُدَّ لك منه ولا غنًى لك عنه.
أمَّا الاعتكافُ في غير المساجد الثلاثة فقد ذهب جماهيرُ العلماء إلى أن الاعتكاف لا يُشترط له أن يكون في أحد هذه المساجد الثلاثة، واستدلُّوا على ذلك بقوله تعالى: ﴿وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ ﴾[البقرة: 187]، ولفظ «المساجد» في الآية عامٌّ فيشمل كلَّ المساجد، إلا ما دلَّ الدليل على عدم صِحَّة الاعتكاف فيه كالمسجد الذي لا تُقام فيه صلاة الجماعة إذا كان المُعتكِف ممن تجب عليه صلاة الجماعة. وقد أشار الإمام البخاري : إلى الاستدلال بعموم الآية فقال: «باب الاعتكاف في العشر الأواخر والاعتكاف في المساجد كلها لقوله تعالى: ﴿وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ﴾ [البقرة: 187]». اهـ.
أمَّا حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنه : «لَا اعْتِكَافَ إِلَّا فِي الْـمَسَاجِدِ الثَّلَاثَةِ»(1) فهذا إن سلم من القوادح فهو نفيٌ للكمال، يعني أن الاعتكافَ الأكمل ما كان في هذه المساجد الثلاثة، وذلك لشرفها وفضلها على غيرها، ولهذا نظائرُ في السنة المطهرة، كقوله ﷺ: «لَا صَلَاةَ بِحَضْرَةِ الطَّعَامٍ»(2) وغيره.
ولا شَكَّ أن الأصلَ في النفي أنه نفيٌ للحقيقة الشَّرْعية أو الحِسِّيَّة، لكن إذا وُجد دليلٌ يمنع ذلك تعيَّن الأخذُ به كما في حديث حذيفة، هذا على تقدير سلامته من القوادح. والله تعالى أعلم.
__________________
(1) أخرجه الطبراني في «الكبير» (9/302) حديث (9511)، وعبد الرزاق في «مصنفه» (4/348) حديث (8016)، وذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (3/173) وقال: «رواه الطبراني في الكبير ورجاله رجال الصحيح».
(2) أخرجه مسلم في كتاب «المساجد ومواضع الصلاة» باب «كراهة الصلاة بحضرة الطعام الذي يريد أكله» حديث (560) من حديث عائشة.