الجماعة التي يجب لزومها(1)

ما لكم لا تنطقون؟! في محاضرتكم بمدينة مونت ريال طلبت منكم أن توضح لي ما هي الجماعة؟ هل تقصد بالجماعة الأكثرية، الأمر الذي تتحدث عليه هو نظري أين الجواب؟
الجواب
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه؛ أما بعد:
فإن مأخذ الجماعة من الاجتماع، ومنه سُمِّي يوم الجمعة والمسجد الجامع ونحوه، لاجتماع الناس فيه.
وقد ورد الأمرُ بلزوم الجماعة في عدة أحاديث، منها:
حديث عمر بن الخطاب عندما خطب بالجابية فقال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم مقامي فيكم فقال: «اسْتَوْصُوا بِأَصْحَابِي خَيْرًا، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ يَفْشُو الْكَذِبُ حَتَّى إِنَّ الرَّجُلَ لَيَبْتَدِئُ بِالشَّهَادَةِ قَبْلَ أَنْ يُسْأَلَـهَا، فَمَنْ أَرَادَ مِنْكُمْ بَحْبَحَةَ الْـجَنَّةِ فَلْيَلْزَمُ الْـجَمَاعَةَ، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ مَعَ الْوَاحِدِ، وَهُوَ مِنَ الِاثْنَيْنِ أَبْعَدُ»( ).
وقد اختلفَ العلماءُ في المقصود بالجماعة على أقوال، وحاصلُها أن الجماعة ترجع إلى أمرين:
أحدهما: أن الجماعة هم الذين اجتمعوا على أمير على مقتضى الشَّرع، فيجب لزومُ هذه الجماعة، ويحرم الخروج عليها وعلى أميرها.
الثاني: أن الجماعة ما عليه أهلُ السنة من الاتباع وترك الابتداع، وهو المذهب الحق الواجب اتباعُه والسير على منهاجه، وهذا معنى تفسير الجماعة بالصحابة، أو أهل العلم والحديث، أو الإجماع، أو السواد الأعظم، فهي كلها ترجع إلى معنى واحد هو: ما كان عليه رسول الله ﷺ وأصحابه، فيجب الاتباعُ حينئذٍ ولو كان المتمسك بهذا قليلًا، ولهذا قال عبد الله ابن مسعود رضي الله عنه: إنما الجماعة ما وافق طاعة الله وإن كنت وحدك(1).
يقول أبو شامة: «حيث جاء الأمرُ بلزوم الجماعة، فالمراد به لزومُ الحق وأتباعِه، وإن كان المتمسك بالحق قليلًا والمخالف كثيرًا؛ لأن الحق الذي كانت عليه الجماعة الأولى من النبي ﷺ وأصحابه رضي الله عنهم ولا تنظر إلى كثرة أهل الباطل بعدهم»(2).
ولهذا نجد أحيانًا بعض العلماء يفسرون الجماعة بأشخاص تمثَّل فيهم المنهجُ الحقُّ والاتباع، فعبد الله ابن المبارك لما سُئل عن الجماعة قال: «أبو بكر وعمر، فقيل له: قد مات أبو بكر وعمر، قال: ففلان وفلان، قيل له: قد مات فلان وفلان، قال ابن المبارك: أبو حمزة السكري جماعة»(3). فأراد ابن المبارك أن يفسر الجماعة بمن اجتمعت فيه صفات الاتباع الكامل للكتاب والسنة.
وفي كلام نفيس للإمام الشافعي رحمه الله يبين فيه معنى أمرِ النبي صلى الله عليه وسلم بلزوم جماعة المسلمين. يقول رحمه الله: «قال: فما معنى أمر النبي بلزوم جماعتهم؟ قلت: لا معنى له إلا واحد. قال: فكيف لا يحتمل إلا واحدًا؟ قلت: إذا كانت جماعتهم متفرقة في البلدان فلا يقدر أحدٌ أن يلزم جماعة أبدان قوم متفرقين، وقد وجدت الأبدان تكون مجتمعة من المسلمين والكافرين والأتقياء والفجَّار، فلم يكن في لزوم الأبدان معنى؛ لأنه لا يمكن، ولأن اجتماع الأبدان لا يصنع شيئًا، فلم يكن للزوم جماعتهم معنى، إلا ما عليه جماعتهم من التحليل والتحريم والطاعة فيهما. ومن قال بما تقول به جماعة المسلمين فقد لزم جماعتهم، ومن خالف ما تقول به جماعة المسلمين فقد خالف جماعتهم التي أمر بلزومها»(4).
فتمهَّد مما سبق أن للجماعة معنيين:
المعنى الأول: المنهج الصحيح والاعتقاد السليم الذي كانت تَدِين به الجماعة، ولزوم الجماعة بهذا المعنى يعني كما قال الشافعي رحمه الله: «لزوم ما عليه جماعتهم من التحليل والتحريم». ومن قال بما تقول به جماعة المسلمين فقد لزم جماعتهم، ومن خالف ما تقول به جماعةُ المسلمين فقد خالف جماعتهم التي أمر بلزومها.
والمعنى الثاني: لزوم من بُويع على الكتاب والسنة، واستقام على ذلك من أئمة المسلمين، وعدم الخروج عليه إلا بالكفر البواح الذي عندنا فيه من الله برهان، وهو المشار إليه في قول الشافعي: «والطاعة فيهما».
وتطبيق هذا في واقعنا المعاصر: أن على المسلم حيثما كان أن يستقيم على الحق الذي كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وأن يسلك طريقَ الهدى، ولا توحِشَنَّهُ قلةُ السالكين، وأن يحذر طريقَ الغواية، ولا تُغرِيَنَّه به كثرةُ الهالكين.
وأن عليه أن يسمع ويطيع للحاكم المسلم الذي تقلَّد على مقتضى الكتاب والسنة، وأقام في الناس كتابَ الله، فإن لم يوجد، وعقدت الرايات على العلمانية وعلى الفصل بين الدين والدولة، وتشعبت الأهواء وتعددت الرايات، فإنه يعرف بقلبه المعروف والمنكر، ولا يبايع أحدًا في الفتنة، ويعقد قلبه على السمع والطاعة لمن تجتمع عليه كلمةُ أهل الحل والعقد في جماعة المسلمين، ويُعين على كلِّ برٍّ وتقوى دُعِي إليه، ولا يعين على أي إثمٍ أو عدوان دُعِي إليه، وأن يصبر حتى يحكم الله واللهُ خيرُ الحاكمين.
هذا وغفر الله لك ما عنونت به سؤالك من قولك (ما لكم لا تنطقون)!! والله تعالى أعلى وأعلم.

________________________
(1) أخرجه أحمد في «مسنده» (1/18) حديث (114)، وصححه الألباني في «ظلال الجنة» (88).
(2) أخرجه اللالكائي في «شرح أصول الاعتقاد» (1/109)، والخطيب في «الفقيه والمتفقه» (2/404).
(3) «الباعث على إنكار البدع» ص22.
(4) أخرجه الترمذي في كتاب «الفتن» باب «ما جاء في لزوم الجماعة» حديث (2167).

تاريخ النشر : 23 يونيو, 2025

فتاوى ذات صلة:

Send this to a friend