بين تفسير قوله تعالى: {ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ} [الأحزاب: 59] والتحرُّش بالإماء

هل الإسلام يجيز أصلًا التحرش بالإماء؟ باعتبار أن فرض الحجاب على النساء هو للتمييز بين الإماء وهن سبايا حروب المسلمين وبين الحرائر، {ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ} [الأحزاب: 59]. كما قال غير واحد من المفسرين. وقد ذكروا أن عمر بن الخطاب كان يضرب الأمة إذا لبست الحجاب.
الجواب
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه؛ أما بعد:
فإن القول بمشروعية التحرُّش بالإماء، والتعرض لهن بسوء، ونسبة ذلك إلى الله ورسوله من البُهتان المبين والكذب الصراح، الذي لا يجرؤ عليه رجل يؤمن بالله واليوم الآخر.
والحديث في قوله تعالى: {ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ} [الأحزاب: 59]. حديث عن ظاهرة من بقايا الجاهلية، نُسبت إلى الفسقة والسفهاء، ولم تنسب إلى أهل الدين والعفة والصيانة، فهي ظاهرة مشجوبة منكرة، كغيرها من الظواهر المرذولة، التي تمنَّى بها بعض المجتمعات على يد قلة من ضعاف الإيمان، قد نكبت بسلوكها هذا عن الصراط، وانحرفت به عن الجادة.
يقول الحافظ ابن كثير في تفسير قوله تعالى: {ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ} [الأحزاب: 59]: «قال السدي في قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ} [الأحزاب: 59]. قال: كان ناس من فساق أهل المدينة يخرجون بالليل حين يختلط الظلام إلى طرق المدينة، يتعرضون للنساء، وكانت مساكن أهل المدينة ضيِّقة، فإذا كان الليل خرج النساء إلى الطرق يقضين حاجتهن، فكان أولئك الفساق يبتغون ذلك منهن، فإذا رأوا امرأة عليها جلباب قالوا: هذه حرة، كفوا عنها. وإذا رأوا المرأة ليس عليها جلباب، قالوا: هذه أمة. فوثبوا إليها. وقال مجاهد: يتجلببن فيعلم أنهن حرائر، فلا يتعرض لهن فاسق بأذى ولا ريبة. وقوله: {وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (96)} [النساء: 96] أي: لما سلف في أيام الجاهلية حيث لم يكن عندهن علم بذلك»(1).
ورحم الله ابن حزم إذ يقول: «وقد ذهب بعضُ من وهل في قول الله تعالى: {يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ} [الأحزاب: 59]. إلى أنه إنما أمر الله تعالى بذلك لأن الفساقَ كانوا يتعرضون للنساء للفسق، فأمر الحرائرَ بأن يلبسن الجلابيب ليعرف الفساق أنهن حرائر فلا يتعرضوهن»(2).
ونحن نبرأ من هذا التفسير الفاسد الذي هو إما زلة عالم أو وهلة فاضل عاقل أو افتراء كاذب فاسق؛ لأن فيه أن الله تعالى أطلقَ الفُساق على أعراض إماء المسلمين، وهذه مصيبة الأبد، وما اختلف اثنان من أهل الإسلام في أن تحريم الزنا بالحرَّة كتحريمه بالأمة، وأن الحد على الزاني بالحرَّة كالحد على الزاني بالأمة ولا فرق، وأن تعرض الحرة في التحريم كتعرُّض الأمَة ولا فرق، ولهذا وشبهه وجب أن لا يقبل قولُ أحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بأن يسنده إليه عليه السلام.
ومنع عمر بن الخطاب للإماء لم يكن من التصوُّن وارتداء الحجاب، وإنما كان من التقنُّع وستر الوجه، ومناط هذا إذا أمنت الفتنة، وقد كانت عامة الإماء يومئذ للابتذال والخدمة، أما إماء التسرِّي التي تراد للفراش ويخشى منها الفتنة فينطبق عليها ما ينطبق على الحرائر؛ لأن الطَّبيعة واحدة والخِلْقَة واحدة، والرِّقُّ وصف عارض خارج عن حقيقتها وماهيَّتها. والله تعالى أعلى وأعلم.

_______________
(1) «تفسير ابن كثير» (6/ 661).
(2) «المحلى» (2/ 241-251).

تاريخ النشر : 18 مايو, 2025
التصنيفات الموضوعية:   01 القرآن الكريم وعلومه

فتاوى ذات صلة:

Send this to a friend