شيخنا الفاضل، بارك الله في أوقاتكم ونفع بكم الإسلام والمسلمين.
السؤال: لقد طلب مني أحدُ طلبة العلم الأفاضل أن أُراجع نسخةَ كتابٍ له تحت الطبع في الردِّ على الدواعش وفكرهم الخارجي، وتفاجأت عندما وجدت أنه خصص فصلًا للكلام على أن كُتب سيد قطب ساهمت أو كانت المصدر الرئيسي في تغذية أفكار المتطرفين والتكفيريين. وطلبت منه برفق أن يراجع هذا الفصل أو يحذفه حرصًا على السلامة يومَ الدين، فإن الرجل لم يدعُ إلى التكفير وإن أَطالَ الحديثَ عن الجاهلية المعاصرة وأوصافها- هذا ما يعتقده العبد الضعيف والعلم عند الله- وبناء على ما ورد في كتبه لا يمكن أن نُحمِّله وزرَ التطرف المعاصر؛ لأن لازم القول ليس بقول، وإحسان الظن بالمشايخ والعلماء والدعاة مطلوب ما لم يتلبسوا بما يدعو إلى الريبة.
فرفض صاحبي بأدب حذف هذا الفصل محتجًّا بأنه يعرف كثيرًا من الشباب الذين تأثروا بكتبه، وقادهم هذا المنهج إلى التساهل في التكفير ولذلك لزم التحذير.
سؤالي هو ما رأيكم يا فضيلة الشيخ في هذا الأمر؟ مع العلم أن الرجل لم يطعن في شخص سيد قطب رحمه الله؟ آراء أمثالكم من المنصفين في مثل هذه القضايا طمأنينة وسكينة.
أسأل الله عز وجل أن يفتح عليكم أبواب رحمته.
الجواب
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه؛ أما بعد:
فقد هلك في سيد قطب رحمه الله رجلان: رجلٌ غلا فيه وأوشك أن يعصمه، ورجلٌ جفا عنه وأوشك أن يلحقه بالخوارجِ وغلاةِ أهل البدع.
والقصد بين هؤلاء وهؤلاء أن سيد قطب داعية من الدعاة، يؤخذ منه ويُرَدُّ عليه، وله إطلاقات في بعض المواضع تحتاج إلى تقييد، وعبارات مُوهمة تحتاج إلى بيان، فمن بيَّن ذلك بالحسنى، وقدَّر له سابقته وبلاءه في نصرة الدين، واعتذر عن الرجل بكونه لم يكن فقيهًا ولا محدثًا، ولكنه كان داعيةً يحمل في صدره همومَ هذه الأمة، ويسكن قلبه حشدٌ هائل من العواطف الإيمانية والهموم الدعوية، وأنه أطلق العنان لقلمه الرشيق السيال في ترجمتها، فكانت هذه الإطلاقات التي أُسيء قراءتُها، واجتهد في تقييدها وضبطها، مع المحافظة على عرض الرجل، وتثمين جهوده الدعوية- من فعل ذلك فأرجو أن لا يُحرم أجر المصيب المنصف.
ومن العدل كذلك في التعامل مع هذا الرمز الدعوي الكبير ملاحظة التطور التاريخي لمسيرته الفكرية والمنهجية، وفكره الذي أخذ شكله الناضج في السنوات الأخيرة من عمره، ومن الخطأ محاسبته عن أفكار تراجع عنها. وكما قال أخوه محمد قطب رحمه الله في رسالة بعثها إلى عبد الرحمن الهرفي، فإن سيد أوصى بقراءة بعض كتبه فقط قبيل وفاته، ومنها “في ظلال القرآن” وخصوصا الأجزاء الاثنا عشر الأولى التي تمكن من تنقيحها، وكتاب “معالم في الطريق”، و”هذا الدين”، و”المستقبل لهذا الدين”، و”خصائص التصور الإسلامي”، و”مقومات التصور الإسلامي”، و”الإسلام ومشكلات الحضارة”.. وهو ما ينبغي محاسبته عليه، وليس ما تراجع عنه.
وما وقع فيه رحمه الله من أخطاء لا يُتابع فيها، ولا يُقر عليها .. كوقوعه في التأويل المذموم وموافقته لمذاهب الأشاعرة في الصفات .. وقوله بعدم حجية خبر الآحاد في العقائد فمثل هذه الأخطاء لم يوفق إلى الحق والصواب فيها .. وهذا طبع البشر المجبولين على الخطأ .. والكمال عزيز .. وجلّ من لا يُخطئ !!
ولكن لم يكن رحمه الله هو أول من أخطأ في ذلك، بل سبقه إلى ذلك فحول كبار، وهو متابع لهم ولأقوالهم .. وذلك لم يمنع من إنصافهم والثناء عليهم بما أصابوا فيه .. والاستفادة من علومهم وكتبهم النافعة !! فالإنصاف في هذه الحالة يقتضي أن يُقال فيه ما قيل في أمثال هؤلاء الفحول، يقبل منهم ويرد عليهم ! ومرة أخرى الكمال عزيز ، ومن الناس من يوهب نقصه لفضله! ورحم الله الذهبي إذ يقول في ترجمة الإمام محمد بن نصر المروزي : ( و لو أنا كلما أخطأ إمام في اجتهاده في آحاد المسائل خطأً مغفوراً له قمنا عليه و بدَّعناه ، و هجرناه ، لما سلم معنا ابن نصير ، و لا ابن مندة ، و لا من هو أكبر منهما ، و الله هو هادي الخلق إلى الحق ، هو أرحم الراحمين ، فنعوذ بالله من الهوى و الفظاظة ) [ سير أعلام النبلاء : 40/14 ) الله تعالى أعلى وأعلم.
كُتب سيد قطب ساهمت في تغذية أفكار المتطرفين والتكفيريين
تاريخ النشر : 19 أغسطس, 2025
التصنيفات الموضوعية: 05 السياسية الشرعية, 09 آداب العلم وطرق تحصيله
فتاوى ذات صلة:
