كثرت الدعوات هذه الأيام لفصل المسجد عن العمل السياسي والحديث في السياسة بالكلية حتى في مجال التوعية. فما هو دور المسجد في السياسة وما موقع فصله عن العمل الحزبي هنا؟ وهل يجوز أن يتبنى الخطيب رأيًا سياسيًّا معينًا ينشره ويقنع به المصلين من على المنبر؟ وماذا عمن يقدحون في الدكتور طلعت وزير الأوقاف بسبب هذا الموقف؟ و جزاكم الله عنا خيرًا.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه؛ أما بعد:
فلا يخفى أن الإسلام عقيدة وشريعة، وأن رئاسة الدولة في الإسلام نيابة عن النبوة في حراسة الدين وسياسة الدنيا به، وأن المسجد كما كان محرابًا للصلاة، كان ديوانًا للحكم، وكان منصةً للقضاء، ومقرًّا لمجالس الشورى، وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمرٌ عامٌّ ينادي: «الصَّلَاة جامِعَة»(1). فيجتمعون في المسجد، ويقررون فيه شئون الدين والدنيا معًا.
ومع توسع رقعة الدولة وتشعب شئونها ظهرت المؤسسات المتخصصة، والولايات المختلفة، وأصبح تنظيمها وتوزيع الاختصاصات بينها من مسائل السياسة الشرعية التي تتقرر في ضوء ما يستجلب من المصالح وما يستدفع من المفاسد، وهذه التراتيب الإدارية تدور في هذا الفلك، وتتغير فيها الفتوى بتغير الزمان والمكان والأحوال تبعًا لتغير الأعراف ووجوه المصالح، ولولي الأمر العدل أن يقصر بعض هذه الشئون على بعض المؤسسات دون بعضها الآخر، إذا استوجبت ذلك المصلحة العامة لجماعة المسلمين.
فقد يمنع في أزمنة الفتن والاحتقانات أن يتدخل أئمة المساجد ووعاظها إلا في القدر المحكم المتفق عليه من قضايا السياسة الشرعية، فالدعوة إلى إقامة الدين وتحكيم الشريعة والرد على شبهات خصومها بالحكمة والموعظة الحسنة من بدهيات الدين وقطعياته، لا يملك أحد أن يمنع من الحديث فيه والدعوة إليه حاكمًا كان أو محكومًا، فهو من جملة البلاغ الواجب لدين الله عز وجل .
أما أن يشار باختيار مرشح دون غيره في المعترك السياسي، فينبغي أن تجنب المساجد مثل هذا النوع من الحديث، دفعًا للاحتقانات، ومنعًا من الهرج والمرج الذي يمكن أن تحدثه إثارة مثل هذه القضايا الجدلية في المساجد التي بنيت للتهليل والتسبيح وذكر الله وإقام الصلاة.
وقد يكون الشيء مشروعًا في الأصل ولكن يمنع منه باعتبار مآله، أو يكون الشيء ممنوعًا في الأصل ولكن يترخص فيه باعتبار مآله. يقول الشاطبي في مضمون هذا الأصل: «النظر في مآلات الأفعال معتبر مقصود للشارع، كانت الأفعال موافقة أو مخالفة، وذلك أن المجتهد لا يحكم على فعل من الأفعال الصادرة من المكلفين بالإقدام أو الإحجام، أي بالحل أو التحريم وبالصحة أو بالبطلان إلا بعد نظره إلى ما يئول إليه ذلك الفعل؛ فقد يكون مشروعًا لمصلحة فيه تستجلب، أو مفسدة تُدرأ، ولكن له مآل على خلاف ما قصد منه، وقد يكون غير مشروع لمفسدة تنشأ عنه أو مصلحة تندفع به، ولكن له مآل خلاف ذلك، فإذا أطلق القول في الأول بالمشروعية فربما أدى استجلاب المصلحة فيه إلى مفسدة تساوي المصلحة أو تزيد عليها، فيكون هذا مانعًا من إطلاق القول بالمشروعية، وكذلك إذا أطلق القول في الثاني بعدم المشروعية، ربما أدى استدفاع المفسدة إلى مفسدة تساوي أو تزيد، فلا يصح إطلاقُ القول بعدم المشروعية، وهو مجال للمجتهد صعب المورد، إلا أنه عذب المذاق، محبوب الغب جار على مقاصد الشرعية»(2).
وقد ثبت يقينًا أن إثارة هذه القضايا في المساجد في هذه الأيام تفتح أبوابًا من الفتن والشرور والمفاسد لا يعلم مداها إلا الله، وتنقل الصراعات الحزبية، والمهاترات السياسية، والتقاذف بالتهم والمناكر إلى ساحات المساجد، ولا أحسب عاقلًا يرضى بنقل ذلك إلى بيوت الله عز وجل .
والدكتور طلعت وزير الأوقاف الحالي نحسبه من الربانيين، وقد خالطناه عن قرب في بعض الأوقات فما وجدناه إلى قانتًا أو ذاكرًا، أو قارئًا للقرآن أو معلمًا له! فهو من أنبل من عرفهم هذا المنصب فيما نظن في واقعنا المعاصر، فينبغي أن ننزله منزلته، وأن نحمل مواقفه على أحسن محاملها، ولا يمنع ذلك من بذل النصيحة له في إطار الرفق والأدب والحكمة؛ فإن من إجلال الله تعالى إكرام ذي الشيبة المسلم وحامل القرآن غير الغالي فيه أو الجافي عنه، وإكرام ذي السلطان المقسط(3)، كما أخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقد اجتمعت هذه الثلاثة في الدكتور طلعت: فهو ذو الشيبة المسلم! وهو حامل القرآن غير الغالي فيه ولا الجافي عنه! وهو ذو السلطان المقسط، نحسبه كذلك، والله حسيبه، ولا نزكي على الله أحدًا.
وإن من أهان سلطان الله في الأرض أهانه الله. والروح الثورية لا تُحلُّ حرامًا ولا تحرِّم حلالًا، ولا تسوغ تجاوز حدود الله عز وجل . والله تعالى أعلى وأعلم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أخرجه مسلم في كتاب «الفتن وأشراط الساعة» باب «في خروج الدجال ومكثه في الأرض» حديث (2942) من حديث فاطمة بنت قيس رضي الله عنها.
(2) «الموافقات» (4/195).
(3) فقد أخرج أبو داود في كتاب «الأدب» باب «في تنزيل الناس منازلهم» حديث (4843) من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إِنَّ مِنْ إِجْلَالِ الله إِكْرَامَ ذِي الشَّيْبَةِ الْـمُسْلِمِ، وَحَامِلِ الْقُرْآنِ غَيْرِ الْغَالِي فِيهِ وَالْـجَافِي عَنْهُ، وَإِكْرَامَ ذِي السُّلْطَانِ الْـمُقْسِطِ». وذكره ابن حجر في «تلخيص الحبير» (2/118) وقال: «إسناده حسن»، والعراقي في «تخريج أحاديث الإحياء» (1/491) وقال: «إسناد حسن».