تحدثم في كُتُبِكم عن مشروعية العمل الجماعي وأصَّلْتُم ذلك، فهل لا تزالون ترون مشروعيتَه رغم ما أفضى إليه من تناحُرٍ ونتائج كارثية؟
الجواب
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه؛ أما بعد:
فإن حديثنا عن مشروعية العمل الجماعي فيما بثثناه في كتبنا لا يعني إضفاءَ الشرعية على واقع العمل الجماعي بكُلِّ علله وتصدعاته، وإنما يهدف في المقام الأول إلى تقديمِ صورة صحيحةٍ عن الإطار الشرعي الذي ينبغي أن يحكم العمل الجماعي، فإن تقيد به صار مشروعًا، وإلا نزع عنه من الشرعية بقدر خروجه عن هذه المعالم، حتى تنعدم شرعيته بالكلية.
ولكي يمتهد القولُ بمشروعية تجمع يتعاقد منتسبوه على عمل من أعمال الدعوة أو الاحتساب العام، فلابد من تحقيق الضوابط الآتية:
• ألا يتحزب على أصلٍ كليٍّ يخالف أصولَ أهل السنة والجماعة -وإلا كانت فرقةً من الفرق الهالكة- أو على بدع جزئية كثيرة:
قال الشاطبي رحمه الله: «إن هذه الفرق إنما تصير فِرَقًا بخلافها للفرقة الناجية في معنى كليٍّ في الدين وقاعدة من قواعد الشريعة، لا في جزئي من الجزئيات؛ إذ الجزئيُّ والفرع الشاذُّ لا ينشأ عنه مخالفة يقع بسببها التفرُّق شيعًا، وإنما ينشأ التفرُّق عند وقوع المخالفة في الأمور الكلية؛ لأن الكليات تقتضي عددًا من الجزئيات غير قليل، وشاذُّها في الغالب ألا يختص بمحل دون محل، ولا بباب دون باب.
واعتبر ذلك بمسألة التحسين العقلي؛ فإن المخالفة فيها أنشأت بين المخالفين خلافًا في فروع لا تنحصر، ما بين فروع عقائد وفروع أعمال.
ويجري مجرى القاعدة الكلية كثرةُ الجزئيات؛ فإن المبتدع إذا أكثرَ من إنشاء الفروع المخترعة عاد ذلك على كثير من الشريعة بالمعارضة، كما تصيرُ القاعدة الكلية معارضة أيضًا، وأما الجزئي فبخلاف ذلك، بل يُعد وقوع ذلك من المبتدع له كالزلة والفلتة»(1).
• ألا يعقد ولاءه وبراءه على أساس الانتساب إلى هذا الاجتماع:
فإن مَعقِد الولاء والبراء في الإسلام هو الكتاب والسنة، على رسم منهاج النبوة، لا غير، وتعليق شيء من القرب والبعد والمحبة والبغض على غير ذلك- من أمور الجاهلية المفرقة بين الأمة، والتي يسخطها الله ورسوله.
• الانتماء إلى جماعة المسلمين بمفهومها العام والشامل:
فكلُّ جماعة تكرِّس لدى أفرادها مفهومَ التمايُز والانفصال، وتزكي لديهم روحَ التشرذم والتهارج مع الآخرين- جماعةٌ بدعية ضالة؛ تفقد من مشروعيتها بقدر ما تبُثُّه من هذه الروح البغيضة؛ لأن لزوم الجماعة بمفهومها العامِّ والشامل هو المخرجُ من الفتنة بنصِّ حديث حذيفة: تلزم جماعة المؤمنين وإمامهم(2).
ولا بديل من ذلك إلا الاعتزالُ حتى الموت، ولا خيار، وهذا الأمر تكليف تخاطَبُ به التجمعات كما يُخاطب به الأفراد، ويجب على كل فرد أو تجمع أن يكون له سعيٌ في ذلك بحسبه، وأدنى ذلك أن يعقد قلبه على لزوم هذه الجماعة متى انتظم شملها، ولا يزرع الألغام في طريقها، أو يحبط الجهود التي تبذل لإقامتها بوجه من الوجوه.
ومن الناحية العملية إذا جرمت الكيانات السياسية المعاصرة صورَ التنظيم والتجمُّع، فينبغي أن يبحث العمل الإسلامي عن سبيل إلى تسكينِ أعماله الدعوية في إطار من الشرعية القانونية، فيجنب نفسه والمنتسبين إليه الدخولَ في محرقة المواجهة مع هذه الكيانات، والتي إن ظلمت ظُلِمَت ظلمًا لا يقدرعليه أحدٌ.
ومن ثمَّ فإنه مما ينبغي الحرصُ عليه التسكينُ القانوني للأعمال الدعوية من خلال إنشاء المؤسسات والجمعيات والمعاهد العلمية والدعوية والإغاثية الراعية لها، وتسجيلها، توطينًا للأعمال الدعوية في دائرة المشروعية، وإقصاء لها- ما أمكن- عن المشكلات القانونية والاحتقانات الأمنية.
ولن يمتهد السبيلُ للقبول المرحلي بتعدُّد كيانات العمل الإسلامي، إلا إذا كان تعدُّد تنوعٍ وتخصص؛ بأن اتفقت هذه الجماعات فيما بينها على أن تتكافل في أداء فروض الكفايات، فهذا كيانٌ يعمل على المحافظة على السنة تخريجًا وتحقيقًا، ويسهر على بيانها للناس درسًا وتصنيفًا، فهذا كيان يهتم بتصحيح عقائد الأمة ومحاربة البدع والخرافات، فهذا كيان يُحيي في الأمة فريضةَ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويحثها على القيام بها، ويعطي لها في ذلك المثل والقدوة، فهذا كيان يعمل على الاحتساب على المبطلين من الحكام وجبابرة السياسة، ويسعى إلى أن ينفذ صوت الإسلام إلى هذه المواقع، وأن ينتزع منها ما يمكن انتزاعه لمصلحة الأمة، فهذا كيان يعمل على دعوة العوام وإخراجهم من بيئة الغفلة إلى بيئة الذكر، ومن بيئة المعصية إلى بيئة الطاعة ونحوه، فهذا كيان يعمل في مجال بحوث تطبيق الشريعة، وإعداد النماذج والصياغات العملية القابلة للتطبيق في واقعنا المعاصر.
ولو كان الأمرُ على هذا النحو، وتمَّ الاتفاقُ بين هذه التجمعات على ذلك، وقسموا العمل فيما بينهم على هذا النحو، وكفوا ألسنتهم عن التقاذُف فيما بينهم بالتُّهم والمناكر، وجمعتهم المجالس للتنسيق والتعاون وتبادل الرأي، وجددوا مفهوم الأمة في العمل الإسلامي، ودعوا إلى نبذ التعصب والتحزب الجاهلي؛ الذي يربط الولاء باسم أو رسم دون الكتاب والسنة- لو فعلوا ذلك لهدوا إلى سواء السبيل، ولامتهد السبيلُ للقبول المرحلي بهذا التعدُّد، باعتباره خطواتٍ مرحلية جادة في الطريق إلى جماعة المسلمين.
أما التعدُّد الذي يتمزق به ولاءُ الأمة بين هذه التجمعات، وتتهارج به الصفوف، ويتلاعن به الناس- فهو وبالٌ ونقمة، يتحول به الواقع إلى فتنة، ويتمهد به السبيل إلى القول باعتزال الجميع. والله تعالى أعلى وأعلم.
_______________
(1) «الاعتصام» (2/200-201).
(2) متفق عليه أخرجه البخاري في كتاب «الفتن» باب «كيف الأمر إذا لم تكن جماعة» حديث (7084)، ومسلم في كتاب «الإمارة» باب «وجوب ملازمة جماعة المسلمين عند ظهور الفتن وفي كل حال وتحريم الخروج على الطاعة ومفارقة الجماعة» حديث (1847) من حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنه.