سيدي؛ لعلك تابعت قضيَّة الضباط الملتحين، وإصرارهم على انتزاع حقوقهم العادلة في ظل الثورة
المباركة، وإصرار قيادات الداخلية على حِرمانهم منها، والجدل الذي لم يزَل محتدمًا حول هذه القضية.
فهل من رؤية شرعية وسطية تضع هذا الأمر في نصابه؟ وتمكننا من قراءته قراءةً موضوعية منصفة؟
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه؛ أما بعد:
فإن في هذه القضية ما هو محكمٌ جلي، ومنها ما هو في محلُّ الاجتهاد:
فأما المحكم فهو كون اللِّحية من شعائر الإسلام، أيًّا كان القول بوجوبها وهو الأرجح، أو بسنيتها وهو القول الآخر في هذه القضية، وأما القول بأنها من سنن العادات وليس من سنن الهدي فلا أعلم سلفًا للشيخين محمود شلتوت، ومحمد أبو زهرة رحمهما الله في ذلك!
ومن المحكم كذلك كونُ اللحية لا تُعيق مُجِدًّا عن جِدِّه، ولا عاملًا عن عمله، وإعفاء اللحية ليست بدعًا من العمل في عالم الجيوش المعاصرة مسلمها وكافرها، برها وفاجرها، فهي تنتشر في جيوش عديدة من العالم، ومنها جيوش قهرت أمتنا، وألحقت بها الهزائم.
ومن المحكم كذلك نُبل هذا الموقف الذي وقفه هؤلاء الضباط، في انتصارهم للسُّنَّة، وإعلائها وتقديمها على مصالحهم الشخصية، وتطلعاتهم الوظيفية، وسوف يَذكرهم تاريخُ الجهاد الدعوي أعلامًا نبلاءَ وروادًا فُضلاء، وقفوا لِـمَا اعتقدوا أنه حق، واستبسلوا في نصرته والدفاع عنه، وقبل ذلك كله نرجو أن يذكرهم الله في الملأ الأعلى عنده.
ولسنا في حاجة إلى سَوْقِ النصوص لتقرير حكم إعفاء اللحية، فقد بات هذا الأمر معلومًا من الدِّين ومن السياسة بالضرورة، ومن أراد أن يعرف الحكم الشرعي لإعفاء اللحية فلن أُحيله إلى المراجع التراثية، ولا إلى مراجع سلفية أو إخوانية، وإنما إلى فتوى شيخ الأزهر الأسبق الشيخ جاد الحق عندما كان مفتيًا للديار المصرية، عندما جاءته رسالة من القضاء العسكري حول هذه القضية، وقد أشار فيها إلى موقف الأئمة المتبوعين من هذه القضية، وأن منهم من جعل العدوان على اللحية من جنس العدوان على الحياة،
وأوجب في قطعها ديةً كاملة، ومنهم من أوجب فيها حكومة عدل، أي تعويضًا عادلًا باعتبار أن من يفعل ذلك معتديًا على حق فطريٍّ ومنفعةٍ أساسية من منافع الإنسان، والتي ختمها بقوله: «وتبعًا لهذا لا يعتبر امتناع الأفراد الذين أطلقوا اللحى عن إزالتها رافضين عمدًا لأوامر عسكرية؛ لأنه باشتراط وجود هذا الأمر فإنها فيما يبدو لا تتصل من قريب أو بعيد بمهمة الأفراد أو تقل من جهدهم، وإنما قد تكسبهم سمات وخشونة الرجال، وهذا ما تتطلبه المهامُّ المنوطة بهم».
وهذا هو نصُّ هذه الفتوى لمن أراد التفصيلَ والاستيثاق:
فتوى شيخ الأزهر الأسبق حول اللحية: فقد سُئل فضيلة شيخ الأزهر جاد الحق كما في الكتاب (60/81) المؤرخ في 12/6/ 1981م منفرد برقم (194) سنة (1985م) هذا السؤال: طلب بيان الرأي عن إطلاق الأفراد المجندين اللِّحى، حيث إن
قسم القضاء العسكري قد طلب الإفتاء بخصوص ذلك الموضوع لوجود حالات لديها؟ وقد أجاب المفتي فضيلة الشيخ جاد الحق علي جاد الحق قائلًا: إن البخاري روى في «صحيحه» عن ابن عمر؛ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «خَالِفُوا الْـمُشْرِكِينَ؛ وَفِّرُوا اللِّحَى، وأَحْفُوا الشَّوَارِبَ»(1).
وفي «صحيح مسلم» عن ابن عمر؛ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أَحْفُوا الشَّوَارِبَ وَأَعْفُوا اللِّحَى»(2).
وفي «صحيح مسلم» أيضًا عن عائشة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «عَشْرٌ مِنَ الْفِطْرَةِ: قَصُّ الشَّارِبِ، وَإِعْفَاءُ اللِّحْيَةِ، وَالسِّوَاكُ، وَاسْتِنْشَاقُ الْـمَاءِ، وَقَصُّ الأَظْفَارِ، وَغَسْلُ الْبَرَاجِمِ، وَنَتْفُ الإِبْطِ، وَحَلْقُ الْعَانَةِ، وَانْتِقَاصُ الْـمَاءِ». قال بعض الرواة: ونسيت العاشرة إلا أن تكون المضمضة(3).
قال الإمام النووي في شرحه لحديث: «أحفوا الشوارب وأعفوا اللحى»: «إنه وردت روايات خمس في ترك اللحية، وكلها على اختلاف في ألفاظها تدلُّ على تركها على حالها، وقد ذهب كثيرٌ من العلماء إلى منع الحلق والاستئصال لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بإعفائها من الحلق، ولا خلاف بين فقهاء المسلمين في أن إطلاق اللحى من سنن الإسلام فيما عبر عنه الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث السابق الذي روته عائشة: «عشر من الفطرة».
ومما يشير إلى أن ترك اللحية وإطلاقها أمرٌ تُقرِّه أحكامُ الإسلام وسُننه، ما أشار إليه فقه الإمام الشافعي من أنه يجوز التعزيرُ بحلق الرأس لا اللِّحية(4). وظاهر هذا حُرمة حلقها على رأي أكثر المتأخرين.
ونقل ابنُ قدامة الحنبلي في «المغني»: أن الدية تجبُ في شعرِ اللحية عند أحمد وأبي حنيفة والثوري، وقال الشافعي ومالك: فيه حكومة عدل(5).
وهذا يشير أيضًا إلى أنَّ الفقهاء قد اعتبروا التعدِّيَ بإتلاف شعر اللحية حتى لا ينبت جنايةً من الجنايات التي تَستوْجِب الـمُساءلة، إما بالدية الكاملة كما قال الأئمة أبو حنيفة(6) وأحمد(7) والثوري، أو حكومة يقدرها الخبراء والعدول كما قال الإمامان مالك(8) والشافعي(9). ولا شكَّ أن هذا الاعتبار من هؤلاء الأئمة يُؤكد أن اللِّحى وإطلاقها أمرٌ مرغوب فيه في الإسلام، وأنه من سُننه التي ينبغي المحافظةُ عليها.
ولـمَّا كان إطلاقُ الأفراد الـمُجنَّدين للِّحى اتباعًا لسنة الإسلام، فلا يؤاخذون على ذلك، ولا ينبغي إجبارهم على إزالتها أو عقابهم بسبب إطلاقها؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق»(10).
وهم مُتَّبِعون لسنة عملية جرى بها الإسلام، ولما كانوا في إطلاقهم اللِّحَى مقتدين برسول الله صلى الله عليه وسلم لم يجب أن يُؤثَّموا أو يُعاقبوا، بل إن من الصالح العام ترغيبُ الأفراد المجندين وغيرهم في الالتزام بأحكام الدين وفرائضه وسننه؛ لما في ذلك من زيادة همتهم، ودفعهم لتحمل المشاقِّ والالتزام عن طيب نفس، حيث يعملون بإيمان وإخلاص.
وتبعًا لهذا لا يُعتبر امتناعُ الأفراد الذين أطلقوا اللحى عن إزالتها رافضين عمدًا لأوامر عسكرية؛ لأنه باشتراط وجود هذا الأمر فإنها فيما يبدو لا تتَّصل من قريب أو بعيد بمهمة الأفراد أو تُقِلُّ من جهدهم، وإنما قد تُكسبهم سماتِ وخشونةَ الرجال، وهذا ما تتطلبه المهامُّ المنوطة بهم.
ولا يقال: إن مخالفة المشركين تقتضي الآن حلقَ اللِّحَى؛ لأن كثيرين من غير المسلمين في الجيوش وفي خارجها يُطلقون اللحى؛ لأنه شتان بين من يطلقها عبادة في الدفاع عن سنة الإسلام، وبين من يطلقها لمجرد التجمُّل وإبقاء سمات الرجولة على نفسه، فالأول: منقاد لعبادة يُثاب عليها إن شاء الله تعالى، والآخر: يرضى بها كالثوب الذي يرتديه ثم يزدريه بعد أن تنتهي مهمته.
ولقد عاب الله الناهين عن طاعته وتوعدهم: ﴿أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى عَبْدًا إِذَا صَلَّى أَرَأَيْتَ إِن كَانَ عَلَى الْهُدَى أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى أَرَأَيْتَ إِن كَذَّبَ وَتَوَلَّى أَلَمْ يَعْلَم بأَنَّ اللَّهَ يَرَى﴾ [العلق: 9- 14]. والله سبحانه وتعالى أعلم.
أما ما هو في محلِّ الاجتهاد في هذه القضية، فهو ما يتعلق بالتوقيت:
فلقد درجت المؤسسة العسكرية والشُّرَطية على هذا التقليد الخاطئ ما يزيد على قرنٍ من الزمان، وربطت طوال هذه الفترة بين اللحية ومن وصمتهم بوصمة الإرهاب والانقلاب على الدولة ومؤسساتها الشرعية، وكرَّست آلةَ الإعلام العَلْمَانية الهائلة هذا الارتباط الظالم، ونشأت أجيال في ظل هذا الخلل، وشبَّ على ذلك صغير القوم وشاب فيه كبيرهم، ولا تنسَ ذاكرة التاريخ ما كان يُغنِّيه سيد الملَّاح في الستينيات أيامَ صراع الإخوان مع عبد الناصر من قوله:
|
والحاجَّةُ ماسة إلى فك الارتباط بين هذا وذاك، وبناءً وعي شعبي جديد يفرق بين الحقائق والأباطيل، ويميز الطيب من الخبيث في هذه الثقافة العلمانية المغلوطة.
ومن ناحية أخرى فعندما نشط العملُ الإسلامي من عقاله، وفتحت له الأبواب بعد هذه الثورة المباركة، وأتيحت له حرية تكوين الأحزاب والممارسة السياسية والحضور الإعلامي- شهد الناسُ من أغلاطه وتناقضاته وتشرذماته ما يفتن الحليم! ليس لأن غيرهم لا يغلطون، ولا يتناقضون، ولكن لأن الناس تنتظر ممن ينتسب إلى الدِّين ما لا تنتظر من غيره، فهو بينهم كالثوب الأبيض الذي تظهر عليه أي شائبة؛ الأمر الذي جعل مساحة من الرواج لقول من يقول ينبغي أن نصون مؤسساتنا العسكرية والشرطية من هذه
التشرذمات، فهي لا تحتمل مثل ذلك الارتباك، ولا ينبغي أن تشغل إلا بمصالح الوطن العليا، وكانت اللحية في حس القوم هي المدخل لهذه الشللية والتشعبات الحزبية تمامًا، كما يقال: لا يجوز للقضاة الاشتغال بالسياسة، وإن كان بعضهم قد غرق في مستنقعها، وشرب من كأسها حتى ثمل.
ومما ظاهَر على ذلك وأعان عليه هذا التشرذمُ البغيض الذي تشهده ساحة العمل الإسلامي بين أهل الدين، وجلهم من الملتحين، وبغيُ بعضهم على بعض، ووقوعُ بعضهم في بعض، وتراشُقُهم بالتُّهَم والمناكر.
ولا يخفى تهافُت هذا المنطق، فاللِّحية كغيرها من شعائر الدين، ومظاهر التدين، فالحرصُ عليها كالحرص على الصلاة في المساجد، أو استعمال سواكٍ عند الوضوء، أو إرسال الأولاد إلى مدرسة إسلامية، أو الحرص على زوجة محجَّبة أو مُنتقبة، فهل يقال لمنتسبي الجيش والشرطة: إياكم والشعائر الدينية، وشهود المحاضرات الإسلامية، وإرسال أولادكم إلى المدارس الإسلامية، وأخرجوا نساءكم
متبرجات بزينة، حفاظًا على حياديتكم، وصيانة لمؤسسات الدولة السيادية من الدخول في المهاترات الحزبية!
لا شَكَّ أن السبيل إلى حماية هذه المؤسسات من الحزبية الدينية أو السياسية لا يكون بتجريمِ الشعائر الدينية، وإنما تجريمُ التحزُّب، والتوافق مع هذه الشريحة من المجتمع على تجنُّب العمل الحزبي بكل ألوانه: دينيًّا كان أو سياسيًّا مدة بقائه في هذه المؤسسات.
ومن ناحية ثالثة: فإن مؤسسةَ الرئاسة تعيشُ أحرج لحظاتها في ظل علمانية متنمِّرة، تحصي عليها أنفاسها، وتقعد لها كل مَرصد، وتتحالف مع الشيطان لإحراجها وإسقاطها، فقد يقول قائل: لا يسوغ إضافةُ عبءٍ جديد على عاتقها في هذه المرحلة الحرجة النَّكِدَة، وليس من المناسب أن يخوضَ أهلُ الدين من رجال الشرطة أو الجيش هذه المعركةَ في هذه المرحلة الدقيقة ليضعوا بذلك عبئًا جديدًا على مؤسسة الرئاسة، ويعطوا فرصةً لدعاة التخريب أن يوقعوا بين وزير الداخلية وهذه المؤسسة، وهم يحاولون استنطَاقه في الفضائيات بما يسمِّم الآبارَ ويحرق الأرض، ولعلَّه خيرُ من تولى هذه الوزارة بعد الثورة قياسًا بغيره ممن سبقه، حتى أصبحت إقالتَه مطلبًا علمانيًّا ومطلبا دوليًّا كذلك.
بطبيعة الحال ليس لدى وزير الداخلية منطق يعوِّل عليه في موقفه، إلا ما ذكره من الأعراف الشُّرَطية، والعقد الذي وقعه طالب الشرطة على الالتزام بهذه الأعراف منذ التحاقه بكلية الشرطة، وهو منطق متهافت لعل أول من يعرف تهافته معالي الوزير نفسه، فقد استقرَّ في حسِّ العُقلاء جميعًا أن العُرف الفاسد لا يُحلُّ حرامًا، ولا يُحرِّم حلالًا، ولا يُبطل حقًّا، ولا يُحق باطلًا، ولن ندلل على ذلك بأمثلة شرعية، كالقول بأنَّ تعارف الاقتصاديين على الربا لا يجعله حلالًا، وتعارف الفنانين على الفنِّ الهابط لا يجعله
مباحًا، وتعارُف النساء على التبرُّج لا يجعله مباحًا، ولكن نسوقُ له على ذلك أمثلةً من واقع الشرطة التي يتنسَّم جهازُها، ويقول أنه يعشقها من أصغر جندي إلى أعلى رتبة فيها: لقد تعارف سائقو الميكروباسات في مصر على شغل الطريق العام، وتعارف على ذلك الباعةُ الجوَّالون، ولا تزال دوريات الشرطة التي يشرف عليها معاليه تلاحقهم، وتزيل هذه الإشغالات، غير عابئة بهذا
العرف السائد بينهم، لأنه عُرفٌ فاسدٌ نشأ على خلاف القانون.
لقد تعارف كثيرٌ من الموظفين في بعض المرافق على تعاطي الرشوة تعلُّلًا بضيق ذات اليد، وسوءِ الأحوال الاقتصادية، ولا تزالُ الرشوة جريمةً قانونية تلاحقها الشرطة بتعليمات من معاليه، مهما تعارف على ذلك المرتشون والمبطلون وأصحابُ النفوس الضعيفة. فهل يجوز أن تكون الشريعةُ أدنى من القانون؟! وأن تكون السنة النبوية أدنى من اللوائح القانونية؟!
بقيت مسألة أخيرة وهي:
أن المؤسسة العسكرية والشُّرَطية هي آكدُ المحاور الاستراتيحية في عملية التغيير، فبها- إن فسدت- يحكُم الطغاة، ومن خلالها يكون بطشهم واستضعافهم لهذه الأمة، وعليها إن صلحت يعول المصلحون والراشدون الذين لا يريدون علوًّا في الأرض ولا فسادًا، فإن اللهَ يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن(11)، فهي ذراعُ البطش لمن أراد عُلوًّا أو فسادًا في الأرض، وهي ذراعُ الشرعية لمن أراد أن يصون العدلَ والكرامة، وأن يحرس هوية الأمة، وأن يُعيد إليها حقوقها وريادتها على مسرح الكون.
ومن ثَمَّ فإن الحرصَ على استصلاحها بالعدل والحق ينبغي أن يكون على رأس أوَّليات العمل الإسلامي في المرحلة القادمة، وهذا يقتضي الروية والأناة، والصبر، وعدم تعجل قطف الثمار.
ولنا أن نقارن بين المصلحة التي تترتب على إعفاء اللحية وإقامة هذه الشعيرة بالنسبة لهؤلاء الضباط، مع استمرار التوتُّر والاحتقان والتوجُّس والارتياب في علاقاتهم مع جمهور القيادت الشرطية، وانعكاس ذلك على مسيرةِ الإصلاح في هذه المؤسسات، تعويقًا وتثبيطًا وتخذيلًا وإرجافًا، ومصلحة إزالة أجواء التوتر التي تخيِّم على العلاقة بين الشرطيين وأهل الدين، ومعالجة هذا الرصيد المحتقن الذي تراكم عبرَ عقود متطاولة من الزمن، وتألف قلوب هذه القيادات تدريجيًّا على التديُّن والمتدينين، وتهيئة الأجواء لنشاط
دعوي هادئ، تُصحَّح فيه المفاهيم، وتحيا فيه الربانية، وتسود فيه قيم العدل والإنصاف، وتشيع فيه روحُ الطهر والفضيلة، فأيهما أنجح سعيًا وأقربُ رشدًا؟!
والتعلُّل بالتمكين، وأنه إذا لم يتيسَّر ذلك على الفور في هذه الأجواء فمتى يتيسر ذلك؟ فإن الجوابَ عن ذلك يُدركه القاصي والداني، فالتمكين نسبي، والأجواء النكدة المحيطة بالتجربة الإسلامية الراهنة تجعل إطلاقَ القول بالتمكين وهمًا من الأوهام، أو ضربًا من الخيال، وإلا فهل سمع أحد بتمكينٍ يُهان فيه رئيسُ البلاد على هذه النحو، وتتجمع القوى المضادَّة لإحراق الدولة وإفشال مؤسساتها بهذه العنف والشراسة التي لا نظير لها بلا حريجة من دينٍ أو خُلُقٍ أو وطنية، وفي مثل هذه الظروف لا بديل من إعمال قاعدة
الموازنة بين المصالح والمفاسد، لتحقيق خير الخيرين ودفع شر الشرين.
ولعل النَّاظرَ في هذه النازلة في ضوء ما تقدم يكون حديثه ذا اتجاهين:
أحدهما: إلى ولاة الأمر في وزارة الداخلية أن يُحاسِبوا أنفسهم قبل أن يحاسبوا، وأن يَزِنُوا أعمالهم قبل أن تُوزَن عليهم، فإن الأمر جِدٌّ لا هزلَ فيه، ولأحدهم أن يتخيَّل أن خصمه في ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يرجو شفاعته في هول الموقف يوم القيامة.
إن الوقوف في وجه شعيرة من شعائر الدين ليس بالأمر الهين، بل قد يُنذِرُ بسوء الخاتمة وبشاعة المنقلب؛ ﴿وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ﴾ [النور: 15]، وإني لأدعوهم إلى تذكُّر قول الله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ﴾ [المجادلة: 20].
الثاني: إلى أحبابنا أصحاب هذه القضية من الضباط الملتحين: أن يضعوا هذه القضية في سياقها الدعوي الشامل، وأن لا تُقتَطع بعيدًا عمَّا احتف بها من ملابسات خاصة، ولعلهم يُدركون ساعتها أن الصبرَ على قضية حلق اللحية، والتركيز على استفاضة البلاغ بأصول الدين، وتصحيح المفاهيم، وإحياء الربانية- أعمق أثرًا، وأكثر نفعًا، وأطول عمرًا، وأنجح سعيًا، وأقرب من هذا التعجُّل رشدًا، لاسيما وقد أدُّوا ما عليهم، وقاموا بواجب البلاغ في أجلى صُوَرِه، فبرئت بذلك ذمتهم، وبقي إِثمُهم على من عاندهم، وتولى
كبرَ الحيلولَةِ بينهم وبين إقامة هذه الشعيرة، وسيكون خَصمه في ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم يومَ القيامة، فليُعِدَّ للسؤال جوابًا، وللبلاء جلبابًا. والله تعالى أعلى وأعلم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أخرجه البخاري في كتاب «اللباس» باب «تقليم الأظفار» حديث (5892) من حديث ابن عمر ب.
(2) أخرجه مسلم في كتاب «الطهارة» باب «خصال الفطرة» حديث (259).
(3) أخرجه مسلم في كتاب «الطهارة» باب «خصال الفطرة» حديث (261).
(4) جاء في «مغني المحتاج» (5/523-525): «(ويجتهد الإمام في جنسه وقدره)- أي التعزير- لأنه غير مقدر شرعًا، موكل إلى رأيه، يجتهد في سلوك الأصلح لاختلاف ذلك باختلاف مراتب الناس وباختلاف المعاصي، فله أن يشهر في الناس ما أدى اجتهاده إليه، ويجوز له حلق رأسه دون لحيته».
(5) «المغني» (8/443).
(6) جاء في «الاختيار» (5/37-41): «قال: (وفي شعر الرأس إذا حُلق فلم ينبت الديةُ، وكذلك اللحية والحاجبان الأهداب)».
(7) جاء في «الإنصاف» (10/101-102): «وفي كل واحد من الشعور الأربعة الدية. وهو: شعر الرأس، واللحية، والحاجبين، وأهداب العينين). هذا المذهب، نص عليه. وعليه الأصحاب».
(8) جاء في «حاشية الدسوقي» (4/277-281): «(و) قلع شعر (حاجب، أو هدب) بضم الهاء الواحد، أو المتعدد- فيه الحكومة إن لم ينبت، فإن نبت وعاد لهيئته فلا شيء فيه إلا الأدب في العمد، وكذا شعر الرأس، واللحية».
(9) جاء في «حاشيتي قليوبي وعميرة» (4/144-145): «الشعور فلا قود فيها مطلقًا وتجب الحكومة فيما شأنه بالزينة منها كلحية».
(10) متفق عليه أخرجه البخاري في كتاب «أخبار الآحاد» باب «ما جاء في إجازة خبر الواحد» حديث (7257)، ومسلم في كتاب «الإمارة» باب «وجوب طاعة الأمراء في غير معصية» حديث (1840) من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه بلفظ: «لَا طَاعَةَ فِي مَعْصِيَةِ الله إِنَّمَا الطَّاعَةُ فِي الْـمَعْرُوفِ».
(11) أخرجه الخطيب البغدادي في «تاريخه» (4/107) من قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه.