ما تقول في خروج الزبير والحسين رضي الله عنهما وغيرهما، وهم يعرفون حُرمة الخروج على الحاكم إلا أن يروا كفرًا بواحًا؟
الجواب
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه؛ أما بعد:
فإن خروج الحسين والزبير كان عن اجتهاد منهما رضي الله عنهما، تحريًا فيه مصلحة الأمة وَفق ما أداه إليه اجتهادهما، وهو اجتهاد لم يوافقهما عليه كثيرٌ من صحابة النبي صلى الله عليه وسلم، فقد روى البخاري رحمه الله عن نافع، قال: لما خلع أهل المدينة يزيدَ بن معاوية جمع ابنُ عمر حَشَمَهُ وولده فقال: إني سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «يُنْصَبُ لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ». وإنَّا قد بايعنا هذا الرجل على بيع الله ورسوله، وإني لا أعلم غدرًا أعظمَ من أن يُبايَع رجلٌ على بيع الله ورسوله ثم يُنصَبُ لـه القتال، وإني لا أعلم أحدًا منكم خلعه ولا بايع في هذا الأمر إلا كانت الفَيْصَلَ بيني وبينه(1).
وعندما بلغ ابنَ عمر رضي الله عنهما أن الحسين رضي الله عنه توجَّه إلى العراق فلحقه على مسيرة ثلاثة ليال، فقال: أين تريد؟ قال: العراق. وهذه كتبهم وبيعتهم، فقال لـه ابن عمر: لا تذهب. فأبى، فقال ابن عمر: إنِّي محدثك حديثًا: إن جبريل عليه السلام أتى النبي صلى الله عليه وسلم فخيَّره بين الدنيا والآخرة فاختار الآخرةَ ولم يُرد الدنيا، وإنَّك بضعة من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يليها أحدٌ منكم أبدًا، فأبى أن يرجع، فاعتنقه ابن عمر وبكَى، وقال: استودعك الله من قتيل(2).
ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «لـمَّا أراد الحسينُ رضي الله عنه أن يخرج إلى أهل العراق، لما كاتبوه كُتبًا كثيرة- أشار عليه أفاضلُ أهل العلم والدِّين كابن عمر وابن عبَّاس وأبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام ألَّا يخرج»(3).
وذكر الحافظ ابن كثير رحمه الله في كتابه «البداية والنهاية» قتالَ أهل المدينة ليزيد، قال: «وقد كان عبد الله بن عمر بن الخطاب وجماعات أهل بيت النبوة ممن لم ينقض العهد ولا بايع أحدًا بعينه بعد بيعته ليزيد»(4).
وقال أيضًا في موضع آخر في خروج الحسين: «لما استشعر النَّاس خروجه أشفقوا عليه من ذلك وحذَّروه منه، وأشار عليه ذَوو الرَّأي منهم والمحبَّة له بعدم الخروج إلى العراق، وأمروه بالقيام بمكَّة، وذكروا ما جرى لأبيه وأخيه معهم»(5).
وهذا عبد الله بن عباس يقول: «استشارني الحسين بن علي في الخروج فقلتُ: لو لا أن يزري بي النَّاس وبك لنشبتُ يدي في رأسك فلم أتركك تذهب»(6).
وهذا أيضًا عبد الله بن عمرو بن العاص يتأسف فيقول: «عجَّل حسين رضي الله عنه قَدَرَه، والله ولو أدركته ما تركته يخرج إلَّا أن يغلبني»(7).
ولا شكَّ أن الذي فعله الحسن كان أرضى لله مما فعله الحسين، فقد مدح النبي صلى الله عليه وسلم صنيعه، وقال: «ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ وَلَعَلَّ اللهَ أَنْ يُصْلِحَ بِهِ بَيْنَ فِئَتَيْنِ مِنَ الْـمُسْلِمِينَ»(8).
وقد اتفقت الأمَّة بعد تجارب مريرة مع السيف على ترك القتال في الفتنة، وأن مفسدةَ الصبر في الجملة أدنى من مفسدة الخروج في الجملة، إلا إذا ضبطت آليات للخروج تُحقق مصالحَه وتمنع مفاسده، وكان هذا عبر أهل الحل والعقد في الأمة، ومن خلال آليات ومؤسسات منضبطة، يقرُّ بها الحاكم والمحكوم على حدٍّ سواء.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «ولهذا استقرَّ أمرُ أهل السنة على ترك القتال في الفتنة، للأحاديث الصحيحة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وصاروا يذكرون هذا في عقائدهم، ويأمرون بالصبر على جَوْر الأئمة، وترك قتالهم، وإن كان قد قاتل في الفتنة خلقٌ كثير من أهل العلم والدين»(9). انتهى.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في ترجمة الحسن بن صالح بن حي: «وقولهم: (وكان يرى السيف) يعني أنه كان يرى الخروجَ بالسيف على أئمَّة الجور، وهذا مذهبٌ للسلف قديمٌ، لكن استقرَّ الأمرُ على ترك ذلك؛ لما رأوه قد أفضى إلى أشدَّ منه؛ ففي وقعة الحرَّة ووقعة ابن الأشعث وغيرهما عِظةٌ لمن تدبَّر»(10).
ومع وجود هذا الاجتهاد، وسابقة الفضل والصلاح، يخطأ من يفعل ذلك، ولكن لا ينبغي أن يُتهم بأنه من الخوارج، فهي تُهمة جائرة من ناحية، وتزيد الموقف سوءًا وفتنة من ناحية أخرى، فالخوارج عبر التاريخ غير البغاة، فالخوارج هم الذين يُكفِّرون بالذنوب والمعاصي، ويقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان، وقد ورَد فيهم من الوعيد ما ورد، أما أهل البغي؛ فهم طائفة من المسلمين تخرج على الإمام الشرعي بتأويلٍ سائغٍ، ولا يكونون كفارًا بمجرد خروجهم لأنهم ما خرجوا إلا بتأويلٍ سائغ، بل ولا يكونون فساقًا عند بعض العلماء.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «أمَّا إذا كان الباغي مجتهدًا ومتأوِّلًا ولم يتبين له أنه باغٍ، بل اعتقد أنه على الحقِّ وإن كان مخطئًا في اعتقاده لم تكن تسميته باغيًا موجبةً لإثمه، فضلًا عن أن تُوجِبَ فسقَه، والذين يقولون بقتال البغاة المتأولين يقولون مع الأمر بقتالهم: قتالنا لهم لدفعِ ضررِ بغيهم لا عقوبة لهم، بل للمنع من العدوان، ويقولون: إنهم باقون على العدالة لا يفسقون»(11).
ومما استدلَّ به القائلون بعدمِ تفسيقِ أهلِ البغي قوله تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ } [الحجرات: 9]. وجه الدلالة من الآيات أنه قال: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } [الحجرات: 10].
ولم يحدث عبر التاريخ فيما نعلم استدعاءُ النصوص الواردة في الخوارج على الحسينِ ومن شايعه، أو ابنِ الزبير ومن شايعه، فمن الجَوْر والبغي والفتنة تجاوُز التخطئة إلى التبديع، والرميُ بالخروج الذي عرف به الخوارج ونسب إليهم عبر التاريخ.
ولعلَّ مما يلفت النظر أن مما اعتُذر به عن ابن الزبير رضي الله عنهما في خروجه على الحجاج- أنَّ خروجه لم يكن بسبب الفسق، بل بسبب ما تأوله من الكفر، كما ذكر ذلك النووي في «شرحه على مسلم»، قال: «قيامهم على الحجَّاج ليس بمجرَّد الفسق، بل لمَّا غيَّر في الشرع وظاهر الكفر»(12).
وأقول:
هل تغيير الشرع وظاهر الكفر عند الحجاج كان أبينَ وأظهر من تغيير الشرع وظاهر الكفر عند دعاة العلمانية في واقعنا المعاصر؟!
هل استجلبَ الحجاجُ شرائعَ الروم أو الفرس وألزم قُضاته بالحكم بها والتحاكم إليها والقَسَم على احترامها ظاهرًا وباطنًا؟!
أقول:
لعلها فرصة للتناصح مع من يُسارعون برمي خيارِ الدعاة بتهمة الخوارج، وينسبونهم إلى الزيغ، ويسمونهم بالمبتدعة وأهل الأهواء بما تأوَّلوه في خروجهم- أن نذكرهم بأن الخروج كان مذهبًا قديمًا للسلف، وأن التأوُّلَ الذي وسعَ من خرج من الصحابة في خروجهم يُمكن أن يسع هؤلاء من المعاصرين في خروجهم كذلك، وشبهة المعاصرين أظهر؛ لأن من مضى من أئمة المسلمين لم يكن لديهم- كما سبق- تبديلٌ للشرائع واستجلابٌ لشرائع الكفر، وتحكيمها عَنوةً في بلاد المسلمين، وإلزام الأمة بالحكم بها والتحاكم إليها، والقَسَمِ على احترامها، والإخلاص لها ظاهرًا وباطنًا. فإعلان الحرب والتبديع لن ير فيه هؤلاء إلا انحيازًا إلى معسكر المبطِلين، وموالاة للعلمانيين والمفسدين، الأمر الذي يُشقق العداوات، ويسعر حرائق البغضاء، ولا يزيد الخرقَ إلا اتساعًا، ولا الواقع إلا فرقةً وفتنة.
وفرق بين التخطئة وبين التبديع والتفسيق وشن الغارة بلا رحمة ولا هوادة، وإن التأويل الذي اتسع عند هؤلاء لأعمال الطغاة والمفسدين والمبطلين ينبغي أن يتسع على الأقل لاجتهادِ أهل الدين وأصحاب الغَيْرة على الحق وعلى الشريعة؛ حتى لا نكون كما قال الآخر: نارًا على الدعاة، وبردًا وسلامًا على الطواغيت والمبطلين.
اللهم اهدنا لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم. والله تعالى أعلى وأعلم.
_______________
(1) أخرجه البخاري في كتاب «الفتن» باب «إذا قال عند قوم شيئًا ثم خرج فقال بخلافه» حديث (7111).
(2) أخرجه ابن عساكر في «تاريخ مدينة دمشق» (14/202).
(3) «منهاج السنة النبوية» (4/530).
(4) «البداية والنهاية» (8/232).
(5) «البداية والنهاية» (8/159).
(6) أخرجه ابن عساكر في «تاريخ مدينة دمشق» (14/200).
(7) أخرجه ابن عساكر في «تاريخ مدينة دمشق» (14/203).
(8) أخرجه البخاري في كتاب «المناقب» باب «مناقب الحسن والحسين ب» حديث (3746) من حديث أبي بكرة رضي الله عنه.
(9) «منهاج السنة النبوية» (4/530).
(10) «تهذيب التهذيب» (2/250).
(11) «الفتاوى الكبرى» (4/266).
(12) «شرح النووي على صحيح مسلم» (12/229).