أستحلفك بالله أن تُجيبني، أستحلفك بالله أن تُجيبني، أستحلفك بالله أن تُجيبني: هل ما حدث في تونس من الخروج على الحاكم يجوز شرعًا؟ علمًا بأن ذلك أدى إلى فتنة؛ حيث قُتل الكثير من الأبرياء، ونُهبت كثير من الأموال والمحلَّات ونحو ذلك، وغالبًا لن تحكم الشريعة، وغالبًا سيأتي مَن هو على دِينِ مَن سبقه، ولكن قد يكون «موديل» مختلفًا ليس أكثر.
العجيب أن الشيخ القرضاوي، وهو كما تعلم ليس من السلفيين، أشاد بما حدث وكأنه لم يعلم حجم الفتنة، والأبرياء الذين قُتلوا جرَّاء الأحداث التونسية.
وإذا نظرت في باقي السلفيين أمثال الحويني فقد التزموا الحكمة ولم يُعلِّقوا على الفتنة.
أستحلفك بالله أن تُجيبني، أستحلفك بالله أن تُجيبني، أستحلفك بالله أن تُجيبني.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه و من والاه؛ أما بعد:
فقد ضيَّقتَ عليَّ بقسمك ستَّ مرات، وما ينبغي لك ذلك، وإن من فِقْه الفِتَن أن تحبس لسانك عن التخوُّض فيها، وأن تَكِل ما لا علم لك به إلى عالمه، وأن يسعك ما وسع غيرك ممن تُقدِّرهم وقد رأيتهم آثروا الصمت.
وإن من الأسئلة ما يكون جوابه التجاهل أو الإعراض في بعض الحالات، كما هو الحال عند اختلاط الحسنات بالسيئات والمنافع بالمضارِّ والمصالح بالمفاسد مع حصول الاشتباه والتلازم.
وأنا أدعوك إلى تأمل هذه العبارة من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية ::
«وهذا باب التعارض باب واسع جدًّا، لاسيما في الأزمنة والأمكنة التي نقصت فيها آثار النبوة وخلافة النبوة، فإن هذه المسائل تكثر فيها، وكلما ازداد النقص ازدادت هذه المسائل، ووجود ذلك من أسباب الفتنة بين الأمة، فإنه إذا اختلطت الحسنات بالسيئات وقع الاشتباه والتلازم.
فأقوامٌ قد ينظرون إلى الحسنات فيُرجِّحون هذا الجانب وإن تضمَّن سيئات عظيمة، وأقوام قد ينظرون إلى السيئات فيرجحون الجانب الآخر وإن ترك حسنات عظيمة، والمتوسطون الذين ينظرون الأمرين قد لا يتبين لهم أو لأكثرهم مقدار المنفعة والمضرة، أو يتبين لهم فلا يجدون من يُعينهم العمل بالحسنات وترك السيئات، لكون الأهواء قارنت الآراء.
ولهذا جاء في الحديث: «إِنَّ اللهَ يُحِبُّ البَصَرَ النَّافِذَ عِنْدَ وُرُودِ الشُّبُهَاتِ، وَيُحِبُّ العَقْلَ الكَامِلَ عِنْدَ حُلُولِ الشَّهَواتِ»(1).
فينبغي للعالم أن يتدبَّر أنواع هذه المسائل، وقد يكون الواجب في بعضها- كما بينته فيما تقدم- العفو عند الأمر والنهي في بعض الأشياء، لا التحليل والإسقاط، مثل أن يكون في أمره بطاعة فعلًا لمعصية أكبر منها، فيترك الأمر بها دفعًا لوقوع تلك المعصية، مثل أن ترفع مذنبًا إلى ذي سلطان ظالم، فيعتدي عليه في العقوبة ما يكون أعظم ضررًا من ذنبه، ومثل أن يكون في نهيه عن بعض المنكرات تركًا لمعروف هو أعظم منفعة من ترك المنكرات فيسكت عن النهي خوفًا أن يستلزم تَرْك ما أمر الله به ورسوله مما هو عنده أعظم من مجرد ترك ذلك المنكر.
فالعالم تارة يأمر وتارة ينهى، وتارة يُبيح وتارة يسكت عن الأمر أو النهي أو الإباحة، كالأمر بالصلاح الخالص أو الراجح أو النهي عن الفساد الخالص أو الراجح، وعند التعارض يُرجِّح الراجح كما تقدم بحسب الإمكان.
فأما إذا كان المأمور والمنهيُّ لا يتقيد بالممكن: إما لجهله، وإما لظلمه، ولا يمكن إزالة جهله وظلمه، فربما كان الأصلح الكفَّ والإمساك عن أمره ونهيه، كما قيل: إن من المسائل مسائل جوابها السكوت كما سكت الشارع في أول الأمر عن الأمر بأشياء والنهي عن أشياء حتى علا الإسلام وظهر.
فالعالم في البيان والبلاغ كذلك، قد يُؤخَّر البيان والبلاغ لأشياء إلى وقت التمكن، كما أخَّر الله سبحانه إنزال آيات وبيان أحكام إلى وقت تمكُّن رسول الله صلى الله عليه وسلم تسليمًا إلى بيانها»(2).
فاشتغل يا بني بإصلاح نفسك، واضرع إلى ربك أن يجنب الشقيقة تونس الفتن، وأن يولي أمورها خيارها، وأن يكشف عنها العذاب، وأن يصرف عنها البلاء، وأن يهيئ لأبنائها من أمرهم رشدًا. والله تعالى أعلى وأعلم.
_______________
(1) أخرجه الشهاب القضاعي في «مسنده» (2/152) حديث (1080)، والبيهقي في «الزهد الكبير» ص346 حديث (954)، من حديث عمران بن حصين رضي الله عنه .
(2) «مجموع الفتاوى» (20/57- 59).