في الساحة جدال عريض حول تواصل حزب النور مع جبهة الإنقاذ، وتفاوت الجدل ما بين اعتبار ذلك خيانةً للتيار الإسلامي وطعنًا له في الظهر، إلى اعتباره فتحًا مبينًا ونصرًا عزيزًا وخروجًا بالأمة من هذا النفق المظلم الذي دخل فيه المشهد السياسي على الساحة المصرية. أفتونا مأجورين.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه؛ أما بعد:
فإن الحراكَ السياسي أو الحوار المجتمعي لإنهاء أزمة سياسية إذا حسنت فيه النيات، سواءٌ أكان من حزب النور أو من غيره، وسواء أكان مع جبهة الإنقاذ أم مع غيرها- اجتهادٌ سياسيٌّ، يدور في فلك السياسة الشرعية، ويتقرَّر حكمُه في ضوء الموازنة بين المصالح والمفاسد، وتختلف فيه الفتوى باختلاف الزمان والمكان والأحوال، ولا يخلو حالُ أطرافه من أن يكونوا بين رجاءِ أجرِ المجتهد المصيب أو أجرِ المجتهد المخطئ، ولا مجال في مثل ذلك لتخوين أو تفسيق أو تكفير.
والحوار لا يعني بالضرورة إقرارَ منطلقات المخالف، أو التسليمَ بمضمون خطابه، فكما يكون الحوارُ مع وجود المشتركات التي ينطلق منها المتحاورون قد يكون الحوارُ حتى مع انعدامها، فهو على كل حالٍ ضرورةٌ للسعي في احتواء الأزمات السياسية أو الجنائية. إن الدول تتحاور مع مختطفي الطائرات لإقناعهم بالتسليم، وقد تتحاور مع البلطجية والشبيحة لإقناعهم بالعدول عن البلطجة والتشبيح، وقد يتحاور أهلُ الدين مع عُبَّاد بوذا وعباد البقر لإقناعهم بالعدول عن عبادة غير الله، ولا يعني مبدأ الحوار التسليم لدياناتهم بالصحة ولا لمنطلقاتهم بالقبول، لقد جاء الجدال في كتاب الله مع أهل الكتاب في قضية محورية تتعلق بالتوحيد، وأمرنا أن يكون بالتي هي أحسن، فقال تعالى: ﴿وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ [العنكبوت: 46]. وفي محاورة النبي ﷺ لنصارى نجران وغيرهم برهان على ذلك(1). فأولى عندما يكون الحوار مع من هم دون ذلك شططًا وغلوًّا.
ولا أظن أن أحدًا في عالم الإسلاميين يتمارى في مبدأ الحوار في ذاته، بدءًا من رئاسة الدولة وحزب الحرية والعدالة ومرورًا بسائر الأحزاب الإسلامية، ولقد تبنَّت مؤسسة الرئاسة الدعوة إلى الحوار المجتمعي وفتحت أبوابها لهذه الدعوة على مصراعيها، فاستجاب لذلك من استجاب، وأدبر عن ذلك من أدبر، ويتفق العقلاءُ جميعًا على أهمية الحوار وسِلمِيَّته للخروج من الأزمات والاحتقانات الطائفية والسياسية، فالحوار الجاد مقدمة حتمية لتطويق الاحتقانات الطائفية والفكرية بين شركاء الوطن الواحد، التي تنشئها القراءات المتعجلة والفهم المغلوط، وفي صحيفة المدينة التي أبرمها النبي ﷺ مع جميع الطوائف في المدينة وما حولها مثال على ترسيخ قيمة المواطنة.
وفي قوله ﷺ يوم الحديبية: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يَسْأَلُونِي خُطَّةً يُعَظِّمُونَ فِيهَا حُرُمَاتِ الله إِلَّا أَعْطَيْتُهُمْ إِيَّاهَا»(2). مثال على ترسيخ قيمة السعي للتعاون العام على الخير، والالتقاء على المشترك منه, وإن كل من التمس المعاونة على محبوب لله تعالى مرضٍ له أُجيب إلى ذلك كائنًا من كان، ما لم يترتب على إعانته على ذلك المحبوب مبغوض لله أعظم منه.
هذا هو حكم الحوار والتواصل مع الغير في إطارِه المجرد، ولكن قد تحتف به ظروف وأحوال تجعل من الضرورة بمكان أن يكون ذلك عن رضًا وتشاورٍ مع بقية أهل الدين، وأن يكون ذلك على سواءٍ وعدل بينهم متى أمكن ذلك، ولو قُدِّر أن جرت الأمور على هذا النحو ما أثارت مثل هذا اللغط، فإن المسلمين يسعى بذمتهم أدناهم وهم يد على من سواهم.
وما عجز عنه فريق منهم سعى في تحقيقه آخر، وأيُّهم أنجز المقصود فقد تحققت مصلحة الأمة والملة، ولا شك أن مثل هذا الذي تمَّ مع جبهة الإنقاذ لو تمَّ عن تراض من جماعة المسلمين- أو جمهورهم- وتشاور بينهم، متى كان ذلك ممكنًا لكان أوصل إلى الهدف، وأقطع للجدل، وأجمع للكلمة، وأطيب للقلوب، دفعًا لما قد يُفضي إليه ذلك من محذور شقِّ التيار الإسلامي من قِبَل خصومه، سواء أكان ذلك واقعًا أو متوقعًا أو متوهمًا، ودفعا لما قد يخافه بعض المخلصين من أن يُفضي ذلك إلى تمكين بعض الخصوم من التجمُّل، وستر عورة ظلمهم وبغيهم بورقة توت إسلامية، وقد جاء في الصحيفة التي كتبها النبي ﷺ بالمدينة، بين المهاجرين والأنصار ومن تبعهم من اليهود أو من غيرهم، من أن المسلمين أمةٌ واحدة على من سواهم، وإن سلم المؤمنين واحدة لا يسالم مؤمن دون مؤمن في جهاد في سبيل الله إلا على سواء وعدل بينهم(3).
فالأمة الإسلامية تنطلق من موقف واحد في كل شئونها العامة، ولا ينبغي لفريق منها أن ينحاز دون سائر إخوانه بموقف منفرد عندما يتعلق الأمر بشأن عام، ونازلة عامة، بل لابد أن يكون عن رضا تشاور وتنسيق مع بقية أهل الدين «إلا على سواء وعدل بينهم».
وأيًّا كان الأمر فإن اللحظة الراهنة تقتضي إحياء الائتلاف الإسلامي، وجمع فصائل العمل السياسي الإسلامي تحت مظلَّة واحدة، تؤلف بين مواقفهم، وتجعلها جميعًا موضع تنسيق وتشاور، والحذر كل الحذر من أن يسعى كل فريق إلى الاستئثار بنسبة إنجازات معينة إلى نفسه أو إلى فريقه، ولو كان ذلك على حساب مصلحة الأمة ومنفعة الملة، فتقف الحظوظ النفسية دون الاستفادة الجماعية من هذه الإنجازات الميدانية، إن الأمر أجل من البحث عن المغانم أو تسجيل المواقف، أو إثبات التفوق والخصوصية، بل إنكار الذات والتجرد لله -عز وجل- فيما نأتي ونذر، ورحم الله الشافعي القائل: «وددتُ أن الناس تعلموا هذا العلم- يقصد كتبه- ولم ينسبوا إليَّ منه حرفًا واحدًا»(4).
أما تراتيب هذا الائتلاف وآلياته فهذا مما يُترك أمره للمؤتمرين أنفسهم، يدبرونه في إطار المقاصد الشرعية، ويسترشدون فيه بالسوابق السياسية والتاريخية على الصعيد الإسلامي، بل وعلى الصعيد البشري بصفة عامة، فإن «الحِكْمَة ضَالَّةُ الْـمُؤْمِنِ»، وكثير من مسائل هذا الباب مما تركته الشريعة عفوًا، وأحالت فيه إلى الخبرة البشرية، والتجارب الإنسانية.
اللهم اهدنا لما اختُلف فيه من الحق بإذنك واصرف عنا مضلات الفتن، ولا تجعل بأسنا بيننا، واجعل الدائرة على من كاد لدينك وأوليائك، اللهم آمين. والله تعالى أعلى وأعلم.
___________________
(1) أخرجه البيهقي في «دلائل النبوة» (5/ 382) عن محمد بن جعفر بن الندي قال: لما قدم وفد نجران على رسول الله ﷺ دخلوا عليه مسجده بعد العصر، فحانت صلاتهم، فقاموا يصلون في مسجده فأراد الناس منعهم، فقال رسول الله ﷺ: «دَعُوهُم». فاستقبلوا المشرق فصلوا صلاتهم.
(2) أخرجه أبو داود في كتاب «الجهاد» باب «في السرية ترد على أهل العسكر» حديث (2751) من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص ب، وذكره الألباني في «صحيح سنن أبي داود» (2751).
(3) أخرجه ابن عساكر في «تاريخ مدينة دمشق» (51/365) من قول الربيع بن سليمان.
(4) أخرجه الترمذي في كتاب «العلم» باب «ما جاء في فضل الفقه على العبادة» حديث (2687)، وابن ماجه في كتاب «الزهد» باب «الحكمة» حديث (4169) من حديث أبي هريرة. وذكره ابن مفلح في «الآداب الشرعية» (2/112) وقال: «أخرجه الترمذي وابن ماجه وهو ضعيف».