المشاركة السياسية وما تتضمنه من تسويغ الديمقراطية، والالتزام بها، وتحكيم الشعب بدلًا من تحكيم الكتاب والسنة، كيف تصبح من مسائل السياسة الشرعية؟ وكيف تدخل ابتداء في باب المصالح والمفاسد مع ما تتضمنه من الشرك والإقرار لغير الله بالحق في الحاكمية والمرجعية؟!
كيف هرول المهرولون واندفع المندفعون وتراجع حُرَّاس الدين عن مواقعهم بهذه البساطة بعد الثورة المباركة؟! وقد كان شكر النعمة يقتضي منهم مزيدًا من الثبات ومزيدًا من الشكر للمُنعِم على ما أفاء به عليهم من نعمه الجارية وزوال دولة المستبدين الظالمين؟! أفتونا مأجورين!
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه و من والاه؛ أما بعد:
فلابد من التأكيد في البداية على بدهيةٍ لا ينبغي أن يُختلف فيها ولا أن يُختلف عليها، وهي أن الحجة القاطعة والحكم الأعلى هو الشرع لا غير، وأنه ليس لأحد من دون الله أن يُحِلَّ الحرام المجمع عليه، ولا أن يحرم الحلال المجمع عليه، ولا أن يُبدِّل الشرع المجمع عليه، وأن من اجترأ على شيء من ذلك بغير عارض من جهالة أو إكراه أو سوء تأويل فقد أتى عملًا من أعمال الكفر الأكبر.
ثم ننتقل بعد ذلك إلى هذه النازلة موضع التساؤل، إن مأخذ القائلين من أهل الدين بتسويغ العمل السياسي إذا اقتضته المصلحة الراجحة مأخذٌ مختلف، لا يتضمن نقل مرجعية الأحكام من الوحي إلى الهوى، أو من الشريعة إلى الشعوب كما يقول أحبتنا الغاضبون، ولا يتضمن بالضرورة الإقرار بمشروعية العلمانية وأحقيتها الشرعية في القيادة والتوجيه كما يظهر بادي الرأي للفضلاء الثائرين، ولكنه من جنس التنزل مع المخالف، وإلزامه بما قبل أن يلتزم به، حقنًا للدماء، وتسكينًا للثائرة، وتقليلًا للمفاسد.
كما يقف المحامي المسلم يدافع عن المظلومين مستندًا في دفاعه ومرافعاته إلى شريعة الظالمين، ليس إقرارًا بشرعيتها، ولكنه إقرار عملي بوجودها، وتعامل معها باعتبارها الشريعة التي يقبل بها القضاة، وتدين بها وتنزل على موجبها محاكم المستبدين؟! وكما تحيَّل يوسف عليه السلام ليأخذ أخاه في دين الملك، وليستبقيه عنده وفقًا لشريعته! التي لم يكن يدين بها يوسف قطعًا، كما قال تعالى: ﴿مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ﴾ [يوسف: 76]، ولكن كانت هي السبيل إلى ما قَصَد إليه من استبقاء أخيه في هذه الظروف.
وكما تقرُّ سائرُ الأمم على وجودهم وسلطانهم على رعاياهم، وتتعامل معهم على هذا الأساس، سواء أكان ذلك من خلال عقد الذمة أم من خلال عقود الأمان الأخرى، دون أن يتضمن هذا الإقرار العملي لهم بوجودهم إقرارًا لدياناتهم بالصحة، ولا لمذاهبهم بالاستقامة، لما هو معلوم من دين الإسلام بالضرورة أن الدين عند الله الإسلام، ﴿وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ [آل عمران: 85].
وقد أذن رسول الله صلى الله عليه وسلم للحجَّاج بن علاط أن يقولَ فيه ما شاء لمصلحة استرداد أمواله من مكة، فقد قال الحجاج بن علاط: يا رسول الله، إن لي بمكة مالًا، وإن لي بها أهلًا، وإني أريد أن آتيهم، أفأنا في حِلٍّ إن أنا نلتُ منك أو قلتُ شيئًا؟ فأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقول ما شاء(1)، وأذن صلى الله عليه وسلم لمحمد بن مسلمة أن يقول ما شاء في قصة مقتل كعب بن الأشرف ليصل بذلك إلى مقصودهما(2)، ولم يكن في قصة الحجَّاج كما سبق إلا مصلحة استعادة ماله، أفلا يجوز شيء من ذلك لإعزاز الدين وإجلال ربِّ العالمين؟!
وقد عُلم من السيرة أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قد محا عن نفسه وَصْف الرسالة في كتاب الحُدَيبية لما أصرَّ المشركون على ذلك وجعلوه شرطًا لإمضاء الصُّلح معهم، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا قريشًا يوم الحديبية على أن يكتب بينه وبينهم كتابًا، فقال: «اكْتُبْ: هَذَا مَا قَاضَى عَلَيْهِ مُحَمَّدٌ رَسُولُ الله». فقالوا: لو كنا نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت، ولا قاتلناك، ولكن اكتب: محمد بن عبد الله. قال: «وَالله إِنِّي لَرَسُولُ الله وَإِنْ كَذَّبْتُمُونِي. اكْتُبْ يَا عَلِيُّ: مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الله»(3).
أفلا تنهض هذه السوابق النبوية دليلًا على شيء من التوسعة فيما نحن بصدده.
ومن جهة أخرى فإنهم يطرحون هذا التساؤل: هل يسع الأمةَ في مرحلةٍ من المراحل أن تُؤخِّر مُغالبتها للمستبدِّين إلى حين إذا رأت أن عامة الناس قد لُبِس عليهم في قضية تحكيم الشريعة، وصُوِّر لهم الأمر على أنه نزاعٌ دنيوي لا مساس له بالدين، ولا صلة له بانتهاك ثوابته وقطعياته؟!
هل يسعها أن تقول: إذا ردَّ السواد الأعظم من الأمة تحكيم الشريعة في لحظة من اللحظات لتشويش أو لسوء تأويل، فسوف نعتزل مغالبة الحكام ومدافعتهم حقنًا للدماء، وتسكينًا لثائرة الفتن، بل وسنعتزل المشهد السياسي برُمَّته، أو نشارك فيه مشاركة رمزية بالقدر الذي يُقلِّل مفاسده، ويحافظ على ما بقي من الدين في مؤسسات هذا الوطن المنكوب، ونعود أدراجنا إلى مساجدنا لنُصلح ما أفسده الضجيج العلماني من عقائد الناس، ونردُّهم إلى نداء فطرتهم أنه لا إله إلا الله بما تعنيه من أنه لا حكم إلا لله.
ثم يزيدون ويقولون: أرأيت لو اجتاح المستعمر قطرًا من أقطار المسلمين، ثم توطَّنوا فيه بخيلهم ورَجِلِهم وعقائدهم، واستطاعوا أن يُشيِّدوا عُمْرانًا ماديًّا، وأن يلبُّوا بعض المطالب الدنيوية، وأن يُصوِّروا للعامة أنهم جاءوا لتعمير بلادهم وتنمية مواردها لصالحهم، وإشاعة العدل بينهم، وردِّ حقوق الإنسان السليبة إليهم وقد انتهكها من قبلُ حُكَّام ظالمون، وأئمة مفسدون، فاغترَّ بهم خلقٌ كثير، وركنوا إليهم، ثم نشط أهل الدين في مغالبتهم ومطالبتهم بالجلاء، فدارت رَحَى الحرب بين الفريقين عقودًا طويلة من الزمن، استُبيحت فيها دماء، وانتهكت فيها حرمات، وانحاز إليهم في هذه المغالبات خلقٌ كثير من المغرَّر بهم من العامة وأشباه العامة، فقال الغزاة الغاصبون: ما أقمنا في بلادكم إلا لأننا الخيار الأفضل لشعوبكم، فهي التي نادتنا فلبَّينا، ودعتنا فأجبنا، ونحن الذين أخرجناها من ظلمات القهر والرجعية إلى فجر التحرر والمدنية، دعونا نحتكم إلى شعوبكم: فإن طالبتنا بالجلاء عن بلادكم، وعزمت أمرها على إقصائنا عنها وإخراجنا منها سلمنا لها، ونزلنا على إرادتها، وإن قبلت بوجودنا وأقرت بجميلنا خليتم بيننا وبينها، وكففتم أيديكم عنا، فاجعلوا شعوبكم هي الحكم في بقائنا أو في إقصائنا، ويوم أن تجتمع كلمة سوادكم الأعظم على مطالبتنا بالجلاء لن نُكرهكم ساعتها على تقبُّل وجودنا، ولن نتنكر لخيارات شعوبكم!!
فهل على أهل الدين من حرج إن هم قبلوا بهذا العرض ورأوا فيه فرصة سانحة لحقن الدماء وجلاء المستعمر عن البلاد بأدنى ما يمكن من التبعة والتضحيات؟!
أليس قبول هذا الخيار أولى من الاستمرار في التقاتل وسفك الدماء الذي جرَّبه هذا الوطن المنكوب واصطلى بنيرانه عبر عقود، ولم ينجح في دحر غاصب ولا في درء حرابة ولا كف عدوان؟!
هل يُمكن أن يُردَّ هذا الخيار بدعوى أن أمر الجلاء من المُحكَمات التي لا ينبغي أن تخضع لمشورة ولا استفتاء؟
أفرأيت إذا رُفعت القضية إلى بعض المنظمات الدولية التي تدين بحقِّ الشعوب في التحرر والاستقلال، وحقِّها في تقرير مصيرها واختيار شكل النظام السياسي الذي يحكمها، فهل على هذا الوطن المنكوب من حرجٍ أن يقف ممثِّلوه في هذه المنظمات الدولية مطالبين بحقِّ شعبهم في تقرير مصيره والاحتكام إلى إرادته في تقرير شكل النظام السياسي الذي يحكمه، استنادًا إلى ما تدين به المنظمات الدولية من مبادئ الحرية وحقِّ الشعوب في التحرُّر والاستقلال؟
إن الغزو الفكري ربيبُ الغزو العسكري، وإن احتلال العقل لا يقلُّ عن احتلال الأرض، وإن فريضةَ التحرُّر من هذا وذاك ينبغي أن تكونَ فريضةً محكمة، ويبقى الحديث في الآليات والوسائل، وفيها متسع ومنادح كثيرة.
قد يقول قائل: إن المطالبة بالجلاء فريضةٌ شرعية، سواء أقبلت بها الشعوبُ أم تنكَّرت لها، وإن الحكم بالشريعة معقد من معاقد الإيمان، سواء أقبل به الناس أم كفروا به، فلماذا نُحيل الأمر في هذا وذاك إلى خيارات الشعوب، وإلى المنظمات الدولية وقد أحكمت الشريعة القول فيه، وليس بعد حكمها حكم، وليس بعد مقالها مقال؟!
والجواب عن ذلك: إن هذا تصرُّف في الوسائل والآليات التي تضع هذا الأصل المحكم موضع التنفيذ بأقل قدر من التبعات والتضحيات، الاستقلال فريضة، ولكن إذا أمكن تحقيقه من خلال الجهاد السلمي والقضائي عبر المنظمات الدولية والجهود الدبلوماسية فهل علينا في ذلك من حرج؟ وهل لابد أن نتعمَّد سلوك الطريق الوعر والخيار الأحمر المخضوب بالدماء؟!
إن تحكيم الشريعة فريضة محكمة، ولكن إذا أمكن التمكين لها من خلال العمل السياسي فهل يتعين اللجوء إلى طريق المنابذة والخروج المسلح؟
ولهذا يقول العلامة أحمد بن محمد شاكر في كتابه «الكتاب والسنة يجب أن يكونا مصدر التشريع في مصر»: «سيكون السبيل إلى ما نبغي من نصر الشريعة السبيل الدستوري السلمي، أن نبثَّ في الأمة دعوتنا، ونجاهد فيها ونجاهر بها، ثم نصاولكم عليها في الانتخاب، ونحتكم فيها إلى الأمة، فإذا وثقت الأمة بنا، ورضيت عن دعوتنا، واختارت أن تحكم بشريعتها، طاعةً لربها، وأرسلت منا نُوَّابها للبرلمان، فسيكون سبيلنا وإياكم أن ترضوا بما يقضي به الدستور، فتلقوا إلينا مقاليد الحكم كما تفعل كلُّ الأحزاب، ثم نَفِي لقومنا بما وعدناهم به من جَعْل القوانين كلِّها مستمدةً من الكتاب والسنة».
وقد يقول قائل: كيف يكون التحاكم إلى القوانين كفرًا بواحًا عند الشيخ أحمد شاكر، كما نصَّ على ذلك في كثير من مؤلفاته، ثم يدعو بعد ذلك إلى التحاكم إلى الدستور المصري، والعمل السياسي السلمي الدستوري من خلال الانتخابات، ودخول البرلمانات؟!
إن الجواب عن ذلك أن الشيخ : يعرف الفرق الشاسع بين القوانين الوضعية التي هي أحكام، يقضي بها القضاء، ويلتزم بها المحكوم عليهم، بينما الدستور هو وثيقة سياسية وعقد ينظم شئون الدولة، فتجري عليه أحكام العقود، وما يصح منها وما يبطل، وما يصح منها دون الشرط الفاسد فيها.
ومن هنا صار مَن يخالف القانون يتعرَّض للعقاب، بينما من يخالف الدستور ونصوصه لا يتعرض لعقاب بل تبطل تصرُّفاته، ولهذا لم يشكل لا على أحمد شاكر ولا على أمثاله من علماء ذلك العصر الفرق بين القوانين التي هي أحكام قد تضادُّ حكم الله ورسوله، وبين الدستور الذي هو عقدٌ بين السلطة والشعب، يتضمن مبادئ عامة، وشروطًا سياسية، لا يلزم الأمة منها إلا ما وافق الشرع، ويبطل ما خالفه.
فلما رأوا أن الدساتير تنصُّ على أن دين الدولة الإسلام، والشريعة المصدر الرئيس للتشريع، ثم رأوا أن باقي المبادئ والشروط في الدساتير مما لا يتعارض مع الشريعة عمومًا، لم يروا في ذلك مشكلة؛ إذ مثل هذا العقد إذا وَجَد إرادة قوية تقف خلفه لتنفيذه، فلن يكون هناك عائق أمام أسلمة قوانين الدولة كلها، خاصة وأن خبراء الدستور يؤكدون أن نص (دين الدولة الإسلام) كافٍ وحده في إلزام السلطة بعدم مخالفة دين الدولة في شيء من ممارساتها.. إلخ.
وهذا السبب ذاته الذي حمل الفقهاء المتأخرين كالشيخ بن باز وابن عثيمين على القول بجواز دخول البرلمان، والمشاركة السياسية، والإصلاح من خلالهما لتعديل القوانين التي تخالف حكم الشريعة! والله تعالى أعلى وأعلم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أخرجه أحمد في «مسنده» (3/138) حديث (12432)، وابن حبان في «صحيحه» (10/390) حديث (4530)، وأبو يعلى في «مسنده» (6/194) حديث (3479)، والطبراني في «الكبير» (3/220) حديث (3196)، من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه ، وذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (6/155) وقال: «رواه أحمد وأبو يعلى والبزار والطبراني ورجاله رجال الصحيح».
(2) أخرجه أبو داود في كتاب «الخراج والإمارة والفيء» باب «كيف كان إخراج اليهود من المدينة» حديث (3000) من حديث كعب بن مالك رضي الله عنه ، وذكره الألباني في «صحيح سنن أبي داود» (3000).
(3) متفق عليه؛ أخرجه البخاري في كتاب «المغازي» باب «عمرة القضاء» حديث (4251)، ومسلم في كتاب «الجهاد والسير» باب «صلح الحديبية في الحديبية» حديث (1783)، من حديث البراء بن عازب.