لقد قرأت في علم الحديث أن من علامات المروءة عدم الأكل في الشارع، وعندما أخبرت الناس بهذا قالوا: لا يوجد في الكتاب أو السنة ما يُفيد هذا. فهل هذا صحيح أم خطأ أم هو خاص بعلماء الحديث فقط؟
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه و من والاه؛ أما بعد:
فإن هذا مما يختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة والأعراف، فإن ما يكون من خوارم المروءة في زمان معين أو مكان معين قد لا يكون خارمًا لها في زمان آخر أو في مكان آخر.
وقد أورد الإمام الذهبي في ترجمة معاوية رضي الله عنه هذه الرواية: «روى سعيد بن عبد العزيز، عن أبي عبد رب قال: رأيت معاوية يخضب بالصفرة، كأن لحيته الذهب، فعقَّب عليه بقوله: كان ذلك لائقًا في ذلك الزمان، واليوم لو فُعِلَ لاستُهجِن»(1).
ومسألة الأكل على وجه الخصوص قال فيها القرطبي : في «التفسير»: «ولا يأكل فيها- يعني الأسواق- لأن ذلك إسقاط للمروءة، وهدم للحشمة، ومن الأحاديث الموضوعة: الأكل في السوق دناءة». انتهى(2).
فالصحيح أن ذلك يُرجع فيه إلى العُرف، والعُرف يُرجع إليه في تقدير وتحديد كثيرٍ من الأمور التي جَعَل الشارعُ تحديدَها إلى العُرف.
وعلى سبيل المثال: لو وقف إنسانٌ اليوم يبول في طرف الشارع لعُدَّ هذا من خوارم المروءة. ولو خرج إنسان اليوم إلى الأسواق مُفتح الأزارير لاستُهجن.
وفي الأول قال حذيفة رضي الله عنه : كنت مع النبي ﷺ فانتهى إلى سُبَاطة قوم، فبال قائمًا، فتنحَّيت، فقال: «ادْنُهْ». فدنوت، حتى قمت عند عقبيه(3).
وفي الثاني: حدَّث معاوية بن قرَّة عن أبيه قال: أتيت رسول الله ﷺ في رَهْطٍ من مُزَيْنة فبايعناه، وإن قميصه لمُطلَق الأزرار، قال: فبايعته، ثم أدخلت يدي في جيب قميصه فمسست الخاتم. قال عروة بن عبد الله: فما رأيتُ معاوية ولا ابنه قط إلا مطلقي أزرارهما في شتاء ولا حرٍّ، ولا يُزَرِّران أزرارهما أبدًا. رواه أبو داود، وقال الألباني: صحيح(4).
ولا يزال العرف يا بني في زماننا هذا يعتبر أن الأكل في الشارع لا يليق بأهل العلم والفضل، فتنزَّه عنه ما استطعت زادك الله حِرصًا وتوفيقًا. والله تعالى أعلى وأعلم.
_________________
(1) «سير أعلام النبلاء» (3/120- 121).
(2) «تفسير القرطبي» (13/17).
(3) متفق عليه؛ أخرجه البخاري في كتاب «الوضوء» باب «البول قائمًا وقاعدًا» حديث (224)، ومسلم في كتاب «الطهارة» باب «المسح على الخفين» حديث (273)، من حديث حذيفة رضي الله عنه .
(4) أخرجه أبو داود في كتاب «اللباس» باب «في حل الأزرار» حديث (4082)، وابن حبان في «صحيحه» (12/266) حديث (5452)، وذكره الألباني في «صحيح سنن أبي داود» (4082).