شيخ صلاح، أُريدُ أن أسألك عن مفهوم «الاحتياط» في الدين الإسلامي، فصراحة قرأتُ عن أحد المذاهب الذي يُبالغ في الاحتياط، وهذا المذهب هو مذهب أهلُ عمان، ووجدتُ لديهم أنهم يقولون في الفتاوى: «الأحوطُ والأمثل والأفضل». فهل «الأحوط» نحن ملزمون به؟
مثلًا فقد وردت فتوى عن نكاحِ المِسيار، والذي أستغربه لماذا تمَّتْ تسميتُه بالمسيار؟! فهو نكاحٌ عاديٌّ به كل شروط النِّكاح إلا أن الزوجين يتفقان فيما بينهما على أمورٍ أخرى؛ مثل أن يبيت عندها ويزورَها في بيت أهلها، الآن الظروف لا تناسب أن يبني لها بيتًا، وكل زوجين لهما شروط وظروف في الحياة، فوجدتُ المذهبَ الإباضي يقول: نرى من باب الاحتياط تحريمَ هذا الزواج. لكنه حقيقيٌّ، وهو صحيح ولا يجوز تحريمُ ما أحل الله.
ثم هناك زواج الزاني بمزنيته مثلًا، فهم يحرِّمونه وإن تابَا بحجة أن السكينة والمودة لن تكون بينهما، لكنَّ هناك حالاتٍ لاثنين يُخطئون وهم يَثِقون ببعضهم البعض لكن أغواهم الشيطان ويُريدان التوبةَ والزواج بعد الخطأ، فهُم يحرِّمون هذا الزواج حتى بعد التوبة، رغم وجود المودة والرحمة والثقة بين الاثنين، فقدْ أخذت أفكر بأن الاحتياط باب واسع، وقَلَّ أن يتعارَضَ مع الحق.
فمثلًا إذا كانتِ الشِّيعةُ تحرم الجبنَ وأكلَ حيوانات البحر كله، فهل يَجِبُ على مَنْ سَمِعَ هذه الفتوى أنْ يحتاطَ ويمتنعَ عن أكلِ حيوانِ البحر والجُبن حتَّى لو كان غير شيعي، من باب الاحتياط مثلًا؟ مع كونه احتياطًا يخالفُ الحقَّ؟
فبصراحة هل كلُّ خلافٍ معتبرٌ لكي نلتزم بالاحتياط، فالأمة الإسلامية لم تتفِّق على كلِّ الأمور بصورة كاملةٍ، فإن من أقَرَّ بالشَّفاعة مثلًا للموحِّدين هناك مَنْ أنكر هذه الشَّفاعة، فهل يجب علينا إنكارُ الشَّفاعة للاحتياط؟
أرجوك بَيِّنْ لي ما شروطُ الاحتياط؟ وما هو الاحتياط؟ وكيف قد يصل بنا الاحتياطُ لتحريم ما أحلَّ الله، مثل زواج الزناة بعدَ التَّوبة وتحريم المسيار؟!
صراحة موضوع «زواج الزاني بزانيته» أجد أنه مباحٌ قبل أو بعد التوبة؛ لأن كليهما قد اتصفا بالزنا، فلو كانا غير تائبين فهو نكاح بين زانيين وهو حلال بنص القرآن {وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [النور: 3]، فكلاهما غير مؤمنين، وكلاهما زناة غير تائبين، ونكاحُهما حلالٌ بنصِّ القرآن قبل التوبة، أما لو تابا وأصلحا فهما كلاهما أصبحا مؤمنَيْنِ ونكاحُهما أيضًا صحيحٌ في هذه الحالة، لكن لا أعلم كيف قام الإباضية بتحريمه، واستدلوا لتحريمه بالآية التي تمنع نكاح الزانية بالعفيف، أمَّا إذا كانا كلاهما زانييْنِ فما المانع؟ لأن الله حرَّمَ نكاح الزاني بالعفيف، ولم يمنع نكاح الزاني المُصر بالزانية المصرة، أما لو تابا فهو أفضل وأضمن، وهو زواج أيضًا صحيح، أما تحريمه مطلقًا عند الإباضية فهذه فتوَى حسب رأيي وعلمي الشرعي غير صحيحة.
لكن هل أنا ملزَمة بفتواهم مثلًا رغم كوني من مذهب السنة؟ فهل أنا ملزَمة بفتواهم لكي أكونَ محتاطةً في أمر الدين؟ لكنَّ الأدلة على تحريمه حسبَ رأيهم ليست صحيحة، فهم حَرَّموه بحجة أنه لن يثق بها، وفي حالاتٍ يكون الزاني يُحبُّ مزنيته وبعد توبتهما وزواجهما تبقى ثقته بها؛ لأنه يعلمُ مثلًا أنها لم تزنِ إلا معه لثقتِها فيه أو لمحبتها له، ويعلم أنها لا تُسَلِّم نفسَها لغيره، فهنا لو تابا كلاهما وأصلحا وتزوَّجا فهما يثقان ببعضهما، ويحبان بعضهما، فكيف يحرمون زواجهما بسبب قولهم: «إنه لن تكون هناك ثقة بينهم»؟ فهذا دلِيلٌ عقلي ظنيٌّ غير مقبول، وأيضًا حرَّموا نكاحهما قياسًا على اللِّعان بأن الملاعنة تحرم على مَنْ لاعنَها، ولا مجالَ للقياسِ، فاللِّعان هو اتِّهام وقذْف الزوجة بالزِّنا، وقد يكون صحيحًا أو غير صحيح، أما الزاني ومزنيته فكلاهما لا يتلاعنان، بل مارسا الفاحشة وتابا معًا، ولم يقذف أحدُهما الآخر بالفاحشة، بل علما يقينًا بالفاحشة، ولم يتهما أحدهما الآخر ولم يتم القذف.
وكلنا نعلم أن اللعانَ والحرمةَ الأبدية لأمر اللعان جاءت عقوبةً على القذف بالزنا، ففي اللِّعان يكونُ أحدهما كاذبًا والآخرُ صادقًا، واللعانُ يختلفُ عن زواج الزاني بمزنيته، فكيفَ يَحكمون بالحُرمة الأبدية لزواج الزاني بمزنيته بعد التوبة؟!
ثم كذلك احتجُّوا بقول بعض الصحابة بأن من زنى بامرأة وتزوَّجها فهما زانيان أبدًا، وقالوا: إنه حرام، لكنَّ الصحابة أنفسَهم قالوا: إن الزواج حلالٌ بعد التوبة برواية أخرى، وحتَّى في نفس الرواية بقول الصحابي: هما زانيان أبدًا. لا يدلُّ أن العقد غير صحيح، بل العقد قد يكون صحيحًا حتى لو تابا؛ لقول الله:{الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً } [النور: 3]. فالعقدُ صحيحٌ بين الزانيين المصرَّيْن.
الخلاصة: ما شروط الاحتياط؟وهل لو كنت أعلم يقينًا أن الحكم هنا غيرُ صحيحٍ فهل أنا مُلزمة بالاحتياط؟ وما الأجوبة لاستفساراتي أعلاه؟ وهل إذا الرجل اقتنع بفتوى معينة مثل أن زواج الزَّاني بمزنيته حلالٌ بعد التوبة فهل إذَا الشَّخص وقع بهذا الأمر وتزوج مزنيتَه بعد توبتهما فهل عليهما إثمٌ لأنهم لم يمتثلوا للمذهبِ الوحيد الَّذي يحرم زواجَ الزَّاني بمزنيته للاحتياط؟ مع العلم بأني أعلم أن الزواج حلال ومتأكدة، لكن هل أنا ملزمة بالاحتياط والإيمان بأنه حرامٌ لأن أحدهم أفتى بحرمته، ولكن ذلك الذي أفتى بحرمته أدلته ليست صحيحة ومخالفة لكتاب الله وسنته.
وهل يجبُ عليَّ الاحتياطُ أيضًا في موضوع الشفاعة ونفي الشفاعة للاحتياط؛ لأن أحدَهم قال: «لا يوجد شفاعة لمن مات دون توبة»؟ وهل إذا آمنتُ بالشفاعة آخذُ الإثم؛ لأني لم أتبع الاحتياط، لأن هناك مذهبًا معينًا قد نفى الشَّفاعةَ؟
آسفة على استفساراتي، لكنِّي أنشد الحقَّ، فهل إذا رأيتُ فتوى تُبيحُ أمرًا معينًا وهو حقٌّ فهل إذا أتى شخص وحرَّم ذلك الحلال الذي أباحَه ربُّنا، فهل يجب أن أحتاط رغم أني أعلم أنه يحرِّمُ الحلال؟
ولكي أقرِّبُ لك المثال: فإن الدُّروز يحرمون تعدُّد الزوجات، فهل يجب عليَّ أنا كسنيَّة أن أحتاط في هذا الأمر أيضًا، ولا أسمح لزوجي أن يتزوج عليَّ؛ لأن أحد المذاهب حرَّمَ تعدُّد الزوجات؟
وهل حينما أعلم أن الدُّروز يحرِّمون تعدد الزوجات وإذا أنا قلت: لا، إن تعدُّد الزوجات ثبت أنه حلال في القرآن فهل عليَّ إثم لأنَّي لم أتبع المذهب الدرزي ولم أتبع الاحتياط الذي يقتضي عليَّ بأن أقول: إن تعدُّد الزوجات حرام؟
أرجوك أَجِبْني فأنا بصراحة وقعت في أمر معين، وهو أنني وقعت في الزنا، والحمد لله تُبت، فهل يجب عليَّ أن أمتنعَ عنِ الزَّواج بمن زنى بي لكي أحتاطَ في الدين، رغم أني أعلمُ أن زواجنا حلال، ويغلبُ على قلبي العلم بأنَّه حلال؛ للأدلة التي أمامي، فلا مناص من القول: «إنه حلال». إلا أن المذهب الإباضي حرَّم هذا الزواج بحجة سدِّ الذرائع؛ لكي لا يأتي شاب لفتاة ويقنعها بالزنا لكي يتزوجَا بعد ذلك.
لكن رغم أن تحريم زواج الزاني بمزنيته قد يمنع الفاحشهَ لمن علم أنَّ الزَّنا يحرم زواجَهما إلا أن الحكم هذا غير صحيح، ومخالفٌ لكتاب الله والسنة التي تدل على تحريم نكاح الزاني بالعفيف، أما نكاح الزاني بالزاني قبل التوبة فهو صحيح بنص القرآن: {وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ} [النور: 3]. أما بعد التوبة فكلاهما أصبحا عفيفين وهو حلال، أما قول الصحابة بأن من زنا بامرأة ثم تزوجها فهما زانيان أبدًا لا يدل على أن العقد حرام مثلما زواج المشرك من المشركة فهما مشركان أبدًا.
ثم إن الصحابة في رواية أخرى قالوا بأنهما لو تابا فهو حلال، فهل يجب علي الاحتياط والخروج من هذا الخلاف؟ لكن هل هذا يعتبر خلافًا؟ فأنا بصراحة لا أقوى على فراق ذلك الرجل، لكن أخاف أن أكون قد اتبعت هوًى في نفسي، لكني أتبع الأدلة، وهي أيضًا تشير إلى أنه حلال بعد التوبة، هل يجب عليَّ أن أحتاط وأحرم زواجي من ذلك الرجل فقط لأني أحبه، ولأن الفتوى بأنه حلال هو أمر مناسب وجيد لي؟
لكن بغض النظر أن الفتوى بأنها مناسبة لي إلا أنها حلال، فهل يجب أن أتبع التحريم فقط؛ لأن القول بأنه حلال هو يفرحني ومناسب لوضعي؟ لكن الحلال هو حلال والحرام هو حرام، فما نصيحتُك لي؟ وما هو الاحتياط في الدين؟ وكيف يكون؟ وهل الاحتياط يكون في كل أنواع الخلاف بين العلماء في العالم؟
لكن الأمة الإسلامية لم تتفق على شيء معين، فلكل قاعدة ولكل فتوى يوجد شواذُّ، فما رأيك أعزك اللهُ بنصرة الإسلام يا شيخي؟
أشكرك وأحبك في الله يا شيخي، وأعاذنا الله من شرِّ الفتن، حينما قرأتُ كتبَ الفقه لمذاهبَ مختلفةٍ عن المذهب السني.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه؛ أما بعد:
فمشكلتك يا بنيتي تتمثل في التخبط في مصادر التلقي، فأنت تستقين من مصادر شتى، منها ما يصلح للاعتبار، ومنها ما لا يصلح.
هل يجمُلُ بمسلمةٍ سنيةٍ أن تجمَعَ بين المذهب السني والمذهب الدُّرزي في نَسَقٍ واحدٍ، وتقول آخذ بالاحتياط، وأُحرِّم تعدُّدَ الزوجات خروجًا من خلاف المذهب الدرزي؟! هذا ما سمعتُه من أحدٍ من قبلُ.
هل أتاكِ يا بنيتي نبأُ الدروز وأقوالهم في العقائد والشرائع؟ هل علمتِ يا بنيتي أن الدروز يقولون بالحلول؟ وأنهم يعتقدون أن الله حَلَّ في علي رضي الله عنه؟ ثم حلَّ في أولاده بعدَهُ واحدًا بعد واحد؟ حتى حلَّ في الحاكم العُبَيدي أبي علي المنصور ابن العزيز؟ ويؤمنون برجعة الحاكم وأنه يغيب ويظهر؟
هل علمتِ أنهم يؤمنون بالتقيَّة (أي النفاق والتستر)؟ فلا يبينون حقيقةَ مذهبهم إلا لمن كان منهم، بل لا يُفشون سرَّهم إلا لمن أَمِنوه ووثقوا به من جماعتهم؟
هل علمْتِ أنهم يقولون بعصمةِ أئمتهم؟ فهم يرون أن أئمتَهُم معصومون من الخطأ والذنوب، بل ألَّهُوهم وعبدوهم من دون الله، كما فعلوا ذلك بالحاكم.
هل علمتِ بقولهم: إن لنصوص الشريعة معانيَ باطنيةً هي المقصود منها دون ظواهرها؟ وبنوا على هذا إلحادَهُم في نصوص الشريعة وتحريفَهُم لأخبارها وتكاليفها.
ومن إلحادهم في الأخبار: أنهم أنكروا اليوم الآخر، وما فيه من حساب وجزاء من جنة ونار، واستعاضوا عن ذلك بما يُسمى التقمُّص أو تناسخ الأرواح، وهو انتقال رُوح الإنسان أو الحيوان عند موته إلى بدن إنسان أو حيوان آخر عند بدء خلقه؛ لتعيش فيه منعمة أو معذبة. وقالوا: «دهر دائم، وعالم قائم، وأرحام تدفع، وأرض تبلع». وأنكروا الملائكة ورسالة الرسل، واتبعوا المتفلسفة الـمَشَّائين أتباعَ أرسطو في مبادئه ونظريات.
ومن إلحادهم في التكاليف من الأوامر والنواهي أنهم حرَّفُوها عن موضعها، فقالوا: الصلاةُ معرفةُ أسرارهم، لا الصلوات الخمس التي تؤدَّى كل يوم وليلة، والصيام كِتمانُ أسرارهم، لا الإمساك عن المفطِرات من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، والحجُّ زيارة الشيوخ المقدَّسِين لديهم، واستحلوا الفواحشَ ما ظهر منها وما بطن، واستحلوا نكاحَ البنات والأمهات، إلى غير ذلك من التَّلاعُب بالنصوص، وجحد ما جاء فيها مما عُلِم بالضرورة من الدين، ولذا قال فيهم أبو حامد الغزالي وغيره: «ظاهرُ مذهبهم الرفضُ، وباطنُه الكفرُ المحض».
فكيف تجمع مسلمة بين مذهب أهل السنة ومذهب الدروز على هذا النحو؟! أليس هذا دلالة على التخبط اللامحدود واللانهائي؟!
وقد سئل شيخ الإسلام ابن تيمية عما يحكم به في الدُّروز والنُّصَيرية، فأجاب: «هؤلاء الدرزية والنُّصيرية كفارٌ باتفاق المسلمين، لا يحلُّ أكل ذبائحهم، ولا نكاح نسائهم، بل ولا يُقِرُّون بالجزية؛ فإنهم مرتدُّون عن دين الإسلام، ليسوا مسلمين ولا يهود ولا نصارى، لا يُقِرُّون بوجوب الصلوات الخمس، ولا وجوب صوم رمضان، ولا وجوب الحج، ولا تحريم ما حرَّم الله ورسوله من الميتة والخمر وغيرهما. وإن أظهروا الشهادتين مع هذه العقائد فهم كفار باتفاق المسلمين»(1).
وللإباضية كذلك أصول يخالفون فيها أهل السنة، منها: اعتقادهم أنَّ القرآن مخلوق من مخلوقات الله، وتخليد مرتكب الكبيرة في النار، وإنكارهم لأحاديث الشَّفاعة الواردة في ذلك، وهي مثبتة في أوثق كتب السنة، وإنكارُهُم رؤيةَ المؤمنين ربَّهم في الآخرة. ومنها تأويلُهُم بعض مسائل الآخرة تأويلًا مجازيًّا كالميزان والصراط وغيرها.
وليس المقامُ مقامَ استقصاءِ أصول الفِرَقِ الخارجة على السنة، ولكن لأبين لكِ فقط طرفًا من الخلْطِ الذي وقعتِ فيه عندما جمعتِ بين هؤلاء جميعًا في نَسَقٍ واحد يا بنيتي.
يا بنيتي، إنَّ هذا العلمَ دينٌ فانظروا عمن تأخذون دينكم(2). القراءة بغير مرشد مهلكة، وأخذ العلم من الصُّحُفِ بغير معلم مهلكة، فمَنْ كان شيخُهُ كتابه فاق خطؤه صوابُه.
أما الاحتياط والخروج من الخلاف فمعناه: الأخذ بالأحوط في الأحكام الشرعية، ويكون ذلك بفعْلِ ما اختلف العلماءُ في وجوبِهِ، وترك ما اختلفوا في تحريمه، وذلك اتقاءَ الشُّبْهة.
والخروجُ من الخلافِ ليس على إطلاقِهِ، بل له ضوابطُ وشروطٌ ذكرَهَا أهلُ العلم، وذلك حتى لا يترتَّبَ على إعمالِهِ التضييقُ على الناس، أو سلبُ خاصية التيسيرِ ورفعِ الحرج في كثيرٍ من الأحكام، والذي يُعْتبر كذلك أصلًا من أصول هذه الشريعة الغراء, وهذه الشروط هي:
الأول: أَلا يُوقع مراعاةُ الخلافِ في خلافٍ آخرَ، ومِنْ ثَمَّ كان فَصْلُ الوِتْر- بأن يأتي بالشفع منفصلًا عن ركعة الوتر بتسليم- أفضل من وصله، وذلك بأن يَصِلَ الشفْعَ بركعةِ الوتر دون تسليم بينهما، ولم يُرَاع خلاف الحنفية في ذلك حيث قالوا بالوصل؛ لأنَّ من العلماء مَنْ لا يُجِيز الوصل .
الثَّانِي: أَلا يُخالفَ سُنَّةً ثابتةً، وَمِنْ ثَمَّ سُنَّ رَفْعُ اليدين في الصلاةِ، ولم يُراعَ قولُ مَنْ قال بِإبطالِهِ الصلاةَ من الحنفية؛ لأنه ثابتٌ عن النبي صلى الله عليه وسلم من رواية نحو خمسين صحابيًّا.
الثَّالِثُ: أن يكون مأخذُ المخالف قويًّا، فإن كان واهيًا لم يُرَاعَ, وَمِنْ ثَمَّ كان الصومُ في السفر أفضل لمن قَوِيَ عليه، ولم يُبَال بقول داود الظاهري رحمه الله: إنَّه لا يَصحُّ .
يقول العزُّ بن عبد السلام رحمه الله: «والضابطُ في هذا أنَّ مأخَذَ المخالف إن كان في غاية الضَّعف والبُّعْد من الصواب فلا نظر إليه ولا التفات عليه»(3) اهـ.
ولهذا شاع عند أهلِ العلْمِ هذا القول
وليس كلُّ خلافٍ جاء معتبرًا
إلا خلاف له حظٌّ من النظر(4)
الرابع: ألا تؤدي مراعاتُه إلى خرْقِ الإجماع، كما نُقل عن ابن سريج من الشافعية أنه كان يغسل أذنيه مع الوجه، ويمسحهما مع الرأس, ويفردهما بالغسل؛ مراعاةً لمن قال: إنهما من الوجه, أو من الرأس, أو عضوان مستقلان, فوقع في خلاف الإجماع؛ إذ لم يقل أحدٌ بالجمع.
فإذا لم يكن شيء من ذلك فيستحَبُّ الخروجُ من الخلاف, لا سيَّما إذا كان فيه زيادة تعبُّدٍ لله عز وجل، يقول العز بن عبد السلام: رحمه الله: «وإن تقاربتِ الأدلَّةُ في سائر الخلاف بحيث لا يَبْعُد قول المخالِفِ كلَّ البُعْد, فهذا مما يُستحب الخروجُ من الخلاف فيه؛ حذرًا من كون الصواب مع الخصْمِ, والشرع يحتاط لفعل الواجبات والمندوبات، كما يحتاط لتركِ المحرمات والمكروهات»(5).
والخلاصة: تخيَّري يا بنيتي مَنْ تَثقين بعلمِهِ وتقواه من أهل السنة، وسليه عما بدا لك، ولا تُكْثري القفْزَ بين مواقع الفتوى ولا بين المفتين، حتى لا تقعي في مثل هذا التخبُّطِ. وأسأل اللهَ أن يردَّكِ إليه ردًّا جميلًا، وأن يأخذ بناصيتك إلى ما يحبه ويرضاهُ، والله تعالى أعلى وأعلم.
_____________________
(1) «مجموع الفتاوى» (35/161).
(2) أخرجه مسلم معلقًا في «المقدمة» عقب باب «بيان أن الإسناد من الدين وأن الرواية لا تكون إلا عن الثقات وأن جرح الرواة بما هو فيهم جائز بل واجب وأنه ليس من الغيبة المحرمة بل من الذَّبِّ عن الشريعة المكرمة»؛ من قول محمد بن سيرين رحمه الله.
(3) «قواعد الأحكام في مصالح الأنام» (1/216).
(4) البيت من بحر البسيط.
(5) «قواعد الأحكام في مصالح الأنام» (1/216).