كيف يُمكن السيطرةُ والتصرُّف عند الغضب، دائمًا عندما يحدث موقف يثير الغضب عندي ولا أمتلك أعصابي، وربما أقوم بالدُّعاء أو السِّباب على الشخص ولو سرًّا، وحاولت مرارًا كف الغضب ولكن بدون فائدة، رغم أني حافظ للقرآن وأحافظ على الصلوات في أوقاتها. أرجو النصيحةَ ولكم جزيل الشكر.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه؛ أما بعد:
فبين يدي جوابي عن سؤالك أبدأُ بوصيَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن قال له: أوصني يا رسول الله. فقال: «لَا تَغْضَبْ». فكرَّر الرجلُ مرارًا، فقال: «لَا تَغْضَبْ»(1).
والمقصود النهيُ عن الأسباب التي تحملك على الغضب، وإذا غضبت فذلك نهيٌ عن التصرفات الحمقاء والمواقف الرعناء التي قد يدفعك إليها هذا الغضب.
ومن آفات الغضب أنه يُلجئ صاحبه إلى الاعتذار، قال بعض الحكماء: «إياك وعزة الغضب، فإنها تُفضي إلى ذل الاعتذار»(2).
والغضب أحدُ الأبواب التي يدخل منها الناس إلى النار؛ قال ابن القيم رحمه الله: «دخل الناسُ النار من ثلاثة أبواب: باب شبهة أورثت شكًّا في دين الله، وباب شهوة أورثت تقديمَ الهوى على طاعته ومرضاته، وباب غضب أورث العدوان على خلقه»(3).
فامتلاك النفس عند الغضب، وكفُّها عن النزق، بطولة لا يستطيعها إلا قويُّ الإيمان، عالي الهمة، قويُّ الإرادة؛ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: «مَا تَعُدُّونَ الصُّرَعَةَ فِيكُمْ؟» قالوا: الذي لا تصرَعُه الرجال. فقال:«لَيْسَ بِذَلِكَ؛ وَلَكِنَّهُ الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ»(4).
ومن أبصر نفسه في المرآة عند الغضب لأدرك الحكمةَ في نهي الشريعة عنه، ودعوتها إلى امتلاك النفس عندما تهيج زوابعه.
وقد أرشدت الشريعة إلى جُملةٍ من الأمور التي تُعين الغاضبَ على تجاوز أزمتِه، والتغلُّب على محنته، نذكر منها:
1- الاستعاذة بالله من الشيطان: فقد قال صلى الله عليه وسلم: «إذا غضب الرجل فقال: أعوذ بالله- سكن غضبه»(5).
وعن سليمان بن صرد قال: كنت جالسًا مع النبي صلى الله عليه وسلم، ورجلان يستبَّان، فأحدُهما احمرَّ وجهُه وانتفخت أوداجُه (عروق من العنق) فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إِنِّي لَأَعْلَمُ كَلِمَةً لَوْ قَالَهَا ذَهَبَ عَنْهُ مَا يَجِدُ؛ لَوْ قَالَ: أَعُوذُ بِالله مِنَ الشَّيْطَانِ. ذَهَبَ عَنْهُ مَا يَجِدُ»(6).
2- التحوُّل عن الحال التي يكون عليها الغاضبُ، فمن كان قائمًا قعَدَ، ومن كان قاعدًا اضطجع؛ فإنه إذا قعَد كان أبعد عن الهيجان والثورة، وإذا اضطجع صار أبعدَ ما يُمكن عن الانتقام وإنفاذ الغضب. قال العلامة الخطابي- رحمه الله- في شرحه على أبي داود: «القائم متهيِّء للحركة والبطش والقاعد دونه في هذا المعنى، والمضطجع ممنوعٌ منهما، فيشبه أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم إنما أمرَه بالقعود والاضطجاع لئلا يبدر منه في حال قيامه وقعوده بادرة يندم عليها فيما بعد. والله أعلم»(7).
3- السكوت: وتلك وصية غالية فالصمت في وقت الغضب عصمةٌ من الزلل، والتقحم فيما يُسخط الله عز وجل من العبارات الكفرية أو الفسقية. نسأل الله العافية، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِذَا غَضِبَ أَحَدُكُمْ فَلْيَسْكُتْ»(8).
4- احتساب الأجر، وتذكر الثواب الجزيل الذي أعده الله تعالى للكاظمين الغيظ والعافين عن الناس، كما قال تعالى: { وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران: 134]. {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} [الشورى: 40]، {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} . ومن ذلك في السنة المطهرة قوله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ كَظَمَ غَيْظًا وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنْفِذَهُ دَعَاهُ اللهُ عَلَى رُءُوسِ الْـخَلَائِقِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُخَيِّرَهُ فِي أَيِّ الْـحُورِ شَاءَ»(9).
وقوله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ كَظَمَ غَيْظًا وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يُمْضِيَهُ مَلَأَ اللهُ جَوْفَهُ الرِّضَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ»(10).
5- حفظُ وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم في النهيِ عن الغضب، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلًا قال للنبي صلى الله عليه وسلم: أوصني. قال: «لَا تَغْضَبْ». فردَّد ذلك مرارًا، قال: «لَا تَغْضَبْ»(11). وفي رواية: قال الرجل: ففكرت حين قال النبي صلى الله عليه وسلم، ما قال، فإذا الغضب يجمع الشرَّ كلَّه(12).
6- التأسي بهديه صلى الله عليه وسلم في الغضب:
فقد كان أملكَ الناس لغضبِه، وكان أكثر الناس حلمًا وصفحًا صلوات ربي عليه، فعن أنس رضي الله عنه قال: كنت أمشي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعليه بُرد نجرانيٌّ غليظُ الحاشية، فأدركه أعرابيٌّ فجبذه بردائه جبذةً شديدة، فنظرت إلى صفحة عاتق النبي صلى الله عليه وسلم- ما بين العُنُق والكتف- وقد أثرت بها حاشيةُ البرد، ثم قال: يا محمد مُر لي من مال الله الذي عندك، فالتفت إليه صلى الله عليه وسلم فضحك، ثم أمر له بعطاء(13).
6- الاستجابة لنصح من ينصحك عند الغضب:
فلا تكن كذلك المنافق الذي غضب مرة فذُكِّر بهدي رسول الله عند الغضب وأُمِر بالاستعاذة فقال لمن ذكَّره: أتُرى بي بأسٌ أمجنون أنا؟ اذهب(14).
وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن رجلًا استأذن على عمر رضي الله عنه فأذن له، فقال له: يا ابن الخطاب والله ما تعطينا الجزل- العطاء الكثير- ولا تحكم بيننا بالعدل، فغضب عمر رضي الله عنه حتى همَّ أن يوقِعَ به، فقال الحر بن قيس- وكان من جلساء عمر-: يا أمير المؤمنين إن الله عز وجل قال لنبيه صلى الله عليه وسلم:{خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف: 199].
هذا وليس كلُّ الغضب مذمومًا، فالغضبُ لله عز وجل عندما تُنتهك محارمه غضبٌ محمود، والتقصير فيه يدلُّ على رقَّةٍ في الدين وضعف في اليقين، فقد غضب صلى الله عليه وسلم عندما أُخبر عن الإمام الذي يُنفِّر الناس من الصلاة بطول قراءته(16). وغضِبَ لما رأى في بيت عائشة سترًا فيه صور ذوات أرواح(17). وغضب لما كلَّمه أسامة في شأن المخزومية التي سرقت، وقال: «أَتَشْفَعُ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ الله؟!»(18). وكل هذه المواضع وأمثالها كان الغضب فيها لله جل جلاله.
وتجدُ الناسَ في هذا الباب طرفين وواسطة بينهما:
فمنهم المفرطون، الذين لا حميَّة لهم، فينتهي بهم تفريطهم إلى الذُّلِّ والصَّغَار وضعف الغَيْرة.
ومنهم المفرِّطُون الذين يُعميهم الغضبُ، بحيث يفقدهم البصيرةَ والاختيار، ويصبح ألعوبة بأيدي الشياطين.
ومنهم أهلُ الاعتدال؛ الذين ينبعثُ غضب أحدهم حيث تجبُ الحميَّةُ والأنفةُ وينطفئ حيث يحسن الحلم. والله تعالى أعلى وأعلم.
___________________
(1) أخرجه البخاري في كتاب «الأدب» باب «الحذر من الغضب» حديث (6116) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(2) «المجالسة وجواهر العلم» للدينوري ص366.
(3) «الفوائد» ص58.
(4) أخرجه مسلم في كتاب «البر والصلة والآداب» باب «فضل من يملك نفسه عند الغضب وبأي شيء يذهب الغضب» حديث (2608) من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
(5) «صحيح الجامع الصغير» (695).
(6) متفق عليه؛ أخرجه البخاري في كتاب «الأدب» باب «الحذر من الغضب» حديث (6115)، ومسلم في كتاب «البر والصلة والآداب» باب «فضل من يملك نفسه عند الغضب وبأي شيء يذهب الغضب» حديث (2610)، من حديث سليمان بن صرد رضي الله عنه.
(7) «عون المعبود شرح سنن أبي داود» (13/97).
(8) أخرجه أحمد في «مسنده» (1/239) حديث (2136) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. وذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (8/70) وقال: «رواه أحمد والطبراني ورجال أحمد ثقات لأن ليثًا صرح بالسماع من طاوس».
(9) أخرجه أحمد في «مسنده» (3/ 440) حديث (15675)، وأبو داود في كتاب «الأدب» باب «من كظم غيظًا» حديث (4777)، والترمذي في كتاب «البر والصلة» باب «في كظم الغيظ» حديث (2021)، وابن ماجه في كتاب «الزهد» باب «الحلم» حديث (4186) من حديث معاذ بن أنس رضي الله عنه. وقال الترمذي: «حديث حسن».
(10) أخرجه الروياني في «مسنده» (2/ 291) حديث (1232) من حديث أبي أمامة رضي الله عنه. وهو في «صحيح الجامع» (176).
(11) أخرجه البخاري في كتاب «الأدب» باب «الحذر من الغضب» حديث (6116) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(12) أخرجه أحمد في «مسنده» (5/373) حديث (23219) من حديث رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم . وذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (8/69) وقال: «رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح».
(13) متفق عليه: أخرجه البخاري في كتاب «الأدب» باب «التبسم والضحك» حديث (6088)، ومسلم في كتاب «الزكاة» باب «إعطاء من سأل بفحش وغلظة» حديث (1057).
(14) أخرجه البخاري في كتاب «الأدب» باب «ما ينهى من السباب واللعن» حديث (6048) من حديث سليمان بن صرد رضي الله عنه.
(15) أخرجه البخاري في كتاب «الاعتصام بالكتاب والسنة» باب «الاقتداء بسنن النبي صلى الله عليه وسلم» حديث (7286).
(16) ففي الحديث المتفق عليه؛ الذي أخرجه البخاري في كتاب «الأذان» باب «من شكا إمامه إذا طول» حديث (705)، ومسلم في كتاب «الصلاة» باب «القراءة في العشاء» حديث (465)، من حديث جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنهما قال: أقبل رجل بناضِحَين وقد جنح الليلُ فوافق معاذًا يُصلي، فترك ناضحه وأقبل إلى معاذ، فقرأ بسورة البقرة أو النساء، فانطلق الرجل. وبلغه أن معاذًا نال منه. فأتى النبيَّ صلى الله عليه وسلم فشكَا إليه معاذًا فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «يَا مُعَاذُ أَفَتَّانٌ أَنْتَ- أَوْ أَفَاتِنٌ. ثَلَاثَ مِرَارٍ- فَلَوْلَا صَلَّيْتَ بِسَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى. فَإِنَّهُ يُصَلِّي وَرَاءَكَ الْكَبِيرُ وَالضَّعِيفُ وَذُو الْـحَاجَةِ».
(17) ففي الحديث المتفق عليه؛ الذي أخرجه البخاري في كتاب «اللباس» باب «ما وطئ من التصاوير» حديث (5954)، ومسلم في كتاب «اللباس والزينة» باب «تحريم تصوير صورة الحيوان» حديث (2107) من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: قدم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم من سفر وقد سترت بقرام (هو الستر الرقيق) لي على سهوة لي، فيها تماثيل، فلما رآه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم هتكَه، وقال: «أَشَدُّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ الَّذِينَ يُضَاهُونَ بِخَلْقِ الله». قالت: فجعلناه وسادة أو وسادتين.
(18) متفق عليه؛ أخرجه البخاري في كتاب «الحدود» باب «كراهية الشفاعة في الحد إذا رفع إلى السلطان» حديث (6788)، ومسلم في كتاب «الحدود» باب «قطع السارق الشريف وغيره والنهي عن الشفاعة» حديث (1688)، من حديث عائشة رضي الله عنها.