كان أبي لديه محلٌّ تجاريٌّ ثم خسر كلَّ أمواله وتبقَّى جزءٌ بسيط فتح به مشروعًا آخر ثم خسر. الآن هو يجلس في البيت، وقد أثَّرت عليه هذه الحوادث تأثيرًا سلبيًّا. وعندما كان في عمله كان لا يهتمُّ لأي أمر من أمورنا، دينيَّة أو دنيويَّة، حتى إنه لم يكن يتحاور معنا أو ينصحنا بشيء، وكأنه يفقد هذا الأسلوب التربويَّ، مع العلم بأنه طيب القلب ويحاول أن يحمينا من غدر الدُّنيا وأنا متأكد أنه يحبنا. فلما جلس بيننا الآن بدأ ينظر إلى سلبياتنا أكثر من إيجابياتنا، ويحاول أن يبعدنا عن الأخطاء التي وقع فيها هو في صغره، بالرغم أننا جميعًا نُحِسُّ أنه يعطي الأمور أكثر من حقِّها، وأنا الوحيد في إخوتي الذي يعرف كيف يتعامل معه فأنا أتجاهله ولا أعطي أي اهتمام لما يقوله وأنفذ ما أريد بما يرضي الله، أنا لا أفعل المُحرَّمات، على العكس أُحِسُّ أنه يقسو على إخوتي لأنهم لا يتجاهلونه.
على سبيل المثال إذا غضب منِّي أتجاهل هذا الغضب وكأنه لم يغضب ولا أتحدَّث معه حتى يأتي هو ويتحدَّث معي، على عكس ما لو حدث مع إخوتي شيء يغضب غضبًا شديدًا ويبدأ في العقاب النَّفسيِّ لهم بعدم رضاه عنهم.
هذا أمره، وأمي أمر آخر، فباختصار شديد أمي من أعظم الأمهات في الدُّنيا، وأحس دائمًا أنها خسارة فينا كلنا، نحن لا نستحقُّ هذا العطف منها، حتى وهي في شدة مرضها تسأل عنا وتهتم لأمرنا، وهي تعمل حتى تسدَّ احتياجاتنا جميعًا واحتياجات البيت، وفي خدمته وخدمتنا، ورغم ذلك يعاملها بقسوة شديدة ويتجاهل ما تفعله لأجله، وهذا يجعلني أغضب منه وأتجاهله ولا أهتمُّ لأمره، وإذا سمعتُه ينطق اسمي وكأن الشياطين ترقص أمامي.
وأنا أُحِسُّ بالذَّنب، ولكن هذا ناتجٌ من سوء تربيته وعدم محاورته وظلمه لنا ولأمي.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصَّلاة والسَّلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:
فإن أحقَّ النَّاس بحسن صحابتك بعد أمك هو أبوك(1)، وليس من النُّبل ولا من المروءة أن تتذكَّر له أخطاءه الآن بعد أن بلغ من الكبر عتيًّا، وبعد أن نزل به ما نزل من البلاء، لتبدأ في حسابه عليها وعقابه بسببها.
وهو وإن كان قد قصَّر في موقفٍ فقد وفَّى في عشرات المواقف، وإن كان قد أساء مرة فقد أحسن لكم من قبل مئات المرات، وتقصيره معكم في الصِّغر لا يُسوِّغ تقصيركم معه في الكبر.
فابذل قصارى جهدك في مرضاته في غير معصية الرَّبِّ جلَّ وعلا، وابذل له النَّصيحة برفق، وقل له ميسورًا من القول، واخفض جناح الذُّلِّ له من الرَّحمة(2)، وتألَّف قلبه على البرِّ بأمِّك، ومعرفة حقوقها كزوجةٍ صالحة ضحَّت من أجل الجميع.
وفَّقنا الله وإيَّاك إلى ما يحبه ويرضاه، وزادك الله برًّا وتوفيقًا، واللهُ تعالى أعلى وأعلم.
____________________
(1) متفق عليه؛ أخرجه البخاري في كتاب «الأدب» باب «من أحق الناس بحسن الصحبة» حديث (5971)، ومسلم في كتاب «البر والصلة والآداب» باب «بر الوالدين وأنهما أحق به» حديث (2548) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى النبي ﷺ فقال: يا رسول الله من أحقُّ الناس بحسن صحابتي؟ قال: «أُمُّكَ». قال: ثم من؟ قال: «أُمُّكَ». قال: ثم من؟ قال: «أُمُّكَ». قال: ثم من؟ قال: «أَبُوكَ».
(2) قال تعالى: ﴿وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا﴾ [الإسراء: 24].