إلى فضيلة الشيخ الدكتور صلاح الصاوي.
يمر علينا هذا اليوم هنا في ديار الغربة في أمريكا ما يسمى بعيد الشكر، وفي هذا اليوم تُقام الوليمة ويُذبح الديك الرومي، وهو ما اشتهر طبخُه عند غير المسلمين في هذا اليوم، هل تكرار هذا في كل عام وبنفس اليوم بالنسبة للعوائل المسلمة تشبُّهٌ بهم؟
وهل في هذا خطر على الأولاد عندما يتربوا ويترعرعوا على هذا؛ لكونهم يعتبرونه واجبًا وكونهم يفرحون بهذا اليوم أكثر من فرحتهم بعيدي الفطر والأضحى؟
نرجو بيان ذلك ونشره عبر موقعكم وصفحتكم بالفيس بوك لكونكم المرجع الرئيسي للفتوى في أمريكا.
الجواب
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه؛ أما بعد:
فيرجع أصلُ هذا العيد إلى أن طائفة من المهاجرين القدامى لهذا البلد تعرضوا لظروف قاسية في بداية هجرتهم؛ لندرة المياه الصالحة للشرب، وافتقاد القدرة على تدبير أمور المعاش، الأمر الذي أدى إلى وفاة بعضهم، ثم تغيَّر بهم الحال بعد أن احتكوا ببعض أصحاب البلاد الأصليين من الهنود الحمر، وتعلموا منهم الزراعة والصيد ونحوه، وتحسنت أحوالهم الحياتية تحسنًا كثيرًا، فدعوا زعيم الهنود الحمر وآخرين، وأقاموا حفلًا قدموا فيه الأطعمة والأشربة، وصار ذلك عادةً لهم في كل عام، إلى أن استقلت الولايات المتحدة، فأوصى مجلس الشيوخ باتخاذ عيد للشكر يحتفل به القوم في كل عام.
فهذه هي الخلفية التاريخية لهذا العيد، وهو عيد ليست فيه مناسك أو طقوس كنسية خاصة، اللهم إلا الاجتماع على طعام التركي والتزاور.
ومن المعلوم أن تخصيص يوم للشكر يتجدد في كل عام، ويتداعى إليه الناس أدنى أحواله أن يكون من البِدع، فإن الشكر عند تجدد النعم واندفاع النقم على الطريقة الإسلامية يكون بالسجود شكرًا لله عز وجل، من غير أن يتخذ ذلك عيدًا، وأمرًا يتكرر في كل عام؛ فعن أبي بكرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم: كان إذا أتاه أمرٌ يُسَرُّ به خرَّ ساجدًا لله تعالى(1).
وقد سجد أبو بكر لما أتاه خبرُ مقتل مسيلمة(2). وسجد عليٌّ حين وجد ذا الثدية في قتلى الخوارج(3). وسجد كعب بن مالك لما بشر بتوبة الله عليه(4).
فأدنى أحوال هذا التخصيص أن يكون بدعةً من البدع، فإذا أضيف إلى هذا كونُه تشبهًا بغير المسلمين بعد أن اتُّخذ شعارًا لهم، وتعلُّق قلوب ناشئتنا بها تعلقًا يُضاهي وقد ينافس تعلُّقَهم بالفطر والأضحى فإنه يتأكد المنعُ من المشاركة في ذلك.
فإن الأعياد من جملة الشرائع والمناهج والمناسك التي لا ينبغي أن يقع فيها الخلطُ والالتباس، ففي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت: دخل عليَّ أبو بكر وعندي جاريتان مِن جواري الأنصارِ تغنيان بما تقاولت به الأنصارُ يوم بُعَاث، قالت: وليستا بمغنيتين. فقال أبو بكر: أبمزمورِ الشيطانِ في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! وذلك يوم عيد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يَا أَبَا بَكْرٍ، إِنَّ لِكُلِّ قَوْمٍ عِيدًا، وَهَذَا عِيدُنَا»(5).
فقوله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ لِكُلِّ قَوْمٍ عِيدًا، وَهَذَا عِيدُنَا» يوجب اختصاص كل قوم بعيدهم.
ولمن قال: ما هو الحرج في أن يتزاور الناس في هذه الإجازة الطويلة ويجتمعون على طعام من غير قصد إلى التشبه؟! لاسيما مع وجود تخفيضات هائلة على التركي وتواجده بكثرة في هذه المناسبة؟
نقول: إن مبدأ التزاور وصلة الأرحام مشروعٌ في هذا اليوم وفي غيره، ومبدأ إطعام الطعام والاجتماع عليه مشروع في هذا اليوم وفي غيره، ومبدأ تناول طعام التركي من غير قصد إلى التشبُّه مشروع في جميع الأوقات، في هذا اليوم وفي غيره، ولكن ينبغي- وقد اتُّخذ شعارًا للقوم- أن يتجنب في هذا اليوم، وفي بقية أيام العام مُتَّسع لتناوله وتناول غيره من الأطعمة المشروعة، ولا حرج في الاستفادة مما يكون عليه من تخفيضات بشرائه وتأخير تناوله إلى وقت آخر.
وليس في هذا مساس بحُسن الجوار، والبر والقسط مع من نُخالطهم من غير المسلمين؛ لأن مسألة الأعياد والاحتفالات من الخصوصيات الحضارية والثقافية، وبعضها من الخصوصيات الدينية، ونحن لم نتوقع من غير المسلمين أن يشاركونا في الأضحية، وأن يضحوا كما يضحي جيرانهم من المسلمين في عيد الأضحى، ولا أن يحتفلوا معنا بالفطر من رمضان، لا نتوقع منهم ذلك، ولا نعتب عليهم إذا لم يفعلوه، ولا نعتبره جفوةً وسوءَ جوار، فللقوم دينُهم ولنا ديننا، وقد قال تعالى: {لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ} [الحج: 67]. وقال عز من قائل: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} [المائدة: 48].
وفي المشتركات الحضارية الأخرى مُتَّسع للبر والقسط مع المسالمين لأهل الإسلام من غير المسلمين من هؤلاء أو من غيرهم. والله تعالى أعلى وأعلم.
______________
(1) أخرجه أبو داود في كتاب «الجهاد» باب «في سجود الشكر» حديث (2774)، والترمذي في كتاب «السير» باب «ما جاء في سجدة الشكر» حديث (1578)، وابن ماجه في كتاب «إقامة الصلاة والسنة فيها» باب «ما جاء في الصلاة والسجدة عند الشكر» حديث (1394). وقال الترمذي: «حديث حسن».
(2) أخرجه البيهقي في «دلائل النبوة» (6/395).
(3) لم أقف عليه في كتب المتون وقد ذكره ابن القيم في «زاد المعاد» (1/362) وعزاه لأحمد.
(4) أخرجه البيهقي في «الكبرى» (2/326) حديث (3598).
(5) متفق عليه؛ أخرجه البخاري في كتاب «المناقب» باب «مقدم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه المدينة» حديث (3931)، ومسلم في كتاب «صلاة العيدين» باب «الرخصة في اللعب الذي لا معصية فيه في أيام العيد» حديث (892).