السؤال
ما هو المناط المكفِّر في دعاء غير الله، والاستغاثة بغير الله؟ وهل يلزم لوصف الفعل بالكفر النظرُ إلى عقيدة فاعله؟ أفتونا مأجورين؟
الجواب
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه؛ أما بعد:
فإن حقيقةَ الشِّرك أن تَصرِف لغير الله ما لا ينبغي أن يُصرف إلا إلى الله وحده. ولنتأمَّلْ في تطبيق هذا الضابط على ما ذكرته من الصور:
أولا: الدعاء والاستغاثة:
الدعاء الشركي والاستغاثة الشركية أن تسأل غير الله ما لا يقدر عليه إلا الله، على نحوِ الاستقلال بتحقيقه أو بالمشاركة فيه، لا على وجه التسبُّب فيه أو الإعانة على الأسباب التي يتحقق بها، فمن سأل المخلوقَ مغفرةَ الذنوب أو تفريجَ الكروب أو شرحَ الصدور أو إنزال القطر أو رفع البلاء ونحوه، أو إدخال الجنة، أو الإنجاء من النار، ولم يكن غالطًا في صيغته، بأن قصد بها التوسُّلَ بدعائه، والاستشفاع بجاهه إلى الله- فقد أشرك بالله عز وجل، الشِّركَ الصريح البين، لسؤاله غيرَ الله ما لا يقدر عليه إلا الله.
أما من توسل به إلى الله في التماس شيءٍ من ذلك من الله، فإن كان في حياته، أي سأله الدعاء فهو مشروعٌ بالإجماع، ومن ذلك حديث أبي فراس ربيعة بن كعب الأسلمي خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن أهل الصفة، رضي الله عنه قال: كنت أبيتُ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأَتيْتُه بوَضُوئه وحاجته فقال لي: «سَلْ». فقلت: أسألك مُرافقَتَك في الجنة. قال: «أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ؟» قلت: هو ذاك. قال: «فَأَعِنِّي عَلَى نَفْسِكَ بِكَثْرَةِ السُّجُودِ»([1]).
فالمعنى: أعنِّي على الشفاعة لك في دخول الجنة بأن تُكثر من الصلاة.
والشيءُ قد ينسب إلى الله خَلْقًا وإيجادًا، وينسب إلى غيره تَسبُّبًا وكَسبًا، فقبض الأرواح ينسب إلى الله عز وجل. {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} [الزمر: 42]. وينسب إلى الملائكة كسبًا وعملًا بأمر الله عز وجل وتسليطه وإذنه، {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ} [الأنعام: 61]. {قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (11)} [السجدة: 11].
والزرع يُنسب إلى الله عز وجل خلقًا وإيجادًا وإنباتًا: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ (63) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (64)} [الواقعة: 63، 64]. وينسب إلى غيره كسبًا وتسببًا وبَذْرًا للحَبِّ في الأرض وتعهدًا له: {يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ} [الفتح: 29]. فمِن العبد الغرسُ والبَذْرُ ومن الله الإنبات والإخراج.
وإن كان ذلك بعد مماته بأن سأله بعد موته أن يرفع شكايتَه إلى الله عز وجل، متأولًا أن الصالحين أحياءٌ في قبورهم، وأنه يطلب منهم الدعاءَ كما يطلب من الأحياء- فذلك لا يحلُّ، وهو متردِّد بين كونه بدعةً وكونه شركًا، وفيه تشبُّه بالنصارى الذين يأتون إلى قبر مريم أو من يقدسونه من صالحيهم ويسألونهم ذلك.
والأظهر أن هذا أدخلُ في باب البدعة منه في باب الشِّرك؛ لأنه يسألهم الدعاءَ، أي يسألهم ما هو مقدور للعباد في الجملة، ولكنه أخطأَ في ذلك لعدم قيام الدليل القاطع على قدرة الموتى على سماع شكايات الأحياء على النحو الذي يظنون، ولا على قدرتهم على التصرُّف وتحقيق ذلك لمن يطلبه منهم على النحو الذي يتوهمون. ولا أثر عمن ينقل عنهم العلم والدين في هذه الأمة ما يسوغ ذلك فيما نعلم.
ومثل ذلك يقال فيمن توجَّه بسؤاله إليهم متأولًا هذا التأوُّل، أي أن مقصودَه أن يشفعوا له عند الله، وأن يدعونه له، فيكون بجهالته وغلطه من المبتدعة الضلال، ولا يكون من المشركين الكفار.
فإذا انتقلنا من التأصيل إلى التطبيق، فإن كثيرًا من العوام ممن يتوجهون إلى غير الله بالدعاء، يفهمون أو يفهمهم شيوخهم أن هذا من جنس التوسُّل بدعائهم إلى الله، فإن سألتهم كيف يطلبون من غير الله ما لا يقدر عليه إلا الله؟ أجابوا بأن مقصودهم التماسَ دعائهم، ورفع حوائجهم إلى الله عز وجل، ولا شكَّ أنه قولٌ باطل، وتأويل فاسدٌ، وخطأٌ بيِّنٌ ظاهر، لا ينبغي أن ينازع في تخطئة أصحابه وبطلانه أحد، ولكنه على كل حال شبهةٌ تنفي عنهم الحكمَ بالشِّرك، فهناك أقوالٌ في سماع الموتى من الأحياء في الجملة، يمكن أن تكون شبهةً لهؤلاء.
وقد أفاض ابن القيم في هذه المسألة في كتابه «الروح»([2]).
ولشيخ الإسلام كلامٌ في ذلك في «مجموع الفتاوى» حيث قال رحمه الله: ((يسمع الميت في الجملة كما ثبت في الصحيحين عن النبي أنه قال: «يسمع خفق نعالهم حين يولون عنه»([3]).
وثبت أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ترَكَ قتلى بدر ثلاثًا، ثم أتاهم فقام عليهم فناداهم فقال: «يا أَبَا جَهْلِ بن هِشَامٍ، يا أُمَيَّةَ بن خَلَفٍ، يا عُتْبَةَ بن رَبِيعَةَ، يا شَيْبَةَ بن رَبِيعَةَ، أَلَيْسَ قد وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا، فَإِنِّي قد وَجَدْتُ ما وَعَدَنِي رَبِّي حَقًّا». فسمع عمرُ قولَ النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله كيفَ يَسمعوا وأنَّى يُجيبوا وقد جِيفُوا؟! قال: «وَالَّذِي نَفْسِي بيده ما أَنْتُمْ بِأَسْمَعَ لِـمَا أَقُولُ مِنْهُمْ، وَلَكِنَّهُمْ لَا يَقْدِرُونَ أَنْ يُجِيبُوا». ثم أَمَر بهم فسُحبوا فَأُلْقُوا في قليب بدر([4]).
وكذلك في الصحيحين عن عبد الله بن عمر: أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم وقَف على قليب بدر فقال: «هَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا؟» ثم قال: «إِنَّهُمْ الْآنَ يَسْمَعُونَ مَا أَقُولُ»([5]).
وقد ثبت عنه في الصحيحين من غير وجه أنه كان يأمر بالسلام على أهل القبور ويقول: «قُولِي: السَّلَامُ عَلَى أَهْلِ الدِّيَارِ مِنْ الْـمُؤْمِنِينَ وَالْـمُسْلِمِينَ، وَيَرْحَمُ اللهُ الْـمُسْتَقْدِمِينَ مِنَّا وَالْـمُسْتَأْخِرِينَ، وَإِنَّا إِنْ شَاءَ الله بِكُمْ لَلَاحِقُونَ»([6]). وهذا خطاب لهم، وإنما يُخاطَب من يسمع.
وروى ابن عبد البر عن النبي أنه قال: «مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَمُرُّ عَلَى قَبْرِ أَخِيهِ كَانَ يَعْرِفُهُ فِي الدُّنْيَا فَيُسَلِّمُ عَلَيْهِ، إِلَّا رَدَّ اللهُ عَلَيْهِ رُوحَهُ حَتَّى يَرُدَّ عَلَيْهِ السَّلَامَ»([7]).
وفي السنن عنه أنه قال: «إِنَّ مِنْ أَفْضَلِ أَيَّامِكُمْ يَوْمَ الْـجُمُعَةِ فِيهِ خُلِقَ آدَمُ وَفِيهِ قُبِضَ وَفِيهِ النَّفْخَةُ وَفِيهِ الصَّعْقَةُ، فَأَكْثِرُوا عَلَيَّ مِنْ الصَّلَاةِ فِيهِ فَإِنَّ صَلَاتَكُمْ مَعْرُوضَةٌ عَلَيَّ». قالوا: يا رسول الله وكيف تُعرض صلاتُنا عليك وقد أرِمْت؟ فقال: «إِنَّ الله عَزَّ وَجَلَّ حَرَّمَ عَلَى الْأَرْضِ أَجْسَادَ الْأَنْبِيَاءِ»([8])
وفي السنن أنه قال: «إِنَّ لله مَلَائِكَةً سَيَّاحِينَ فِي الْأَرْضِ يُبَلِّغُونِي مِنْ أُمَّتِي السَّلَامَ»([9]).
فهذه النصوص وأمثالها تُبين أن الميت يسمع في الجملة كلامَ الحيِّ، ولا يجب أن يكون السمع له دائمًا، بل قد يسمع في حالٍ دون حال، كما قد يعرض للحيِّ، فإنه قد يسمع أحيانًا خطاب من يخاطبه وقد لا يسمع لعارض يعرض له))([10]).
ولا يكون مع قيام هذه الشبهة بهم تحقُّق مناط الكفر في هذا العمل بالنسبة لهم، لأن مناطه أن تسأل غير الله ما لا يقدر عليه إلا الله، وهم بتأويلهم هذا يسألونهم الدعاءَ الذي هو مقدورٌ للعباد في الجملة، فللقصد دورٌ في تكييف العمل، فإزهاق الروح مثلًا يختلف تكييفه باختلاق قصود أصحابه: فقد يكون قتلًا عمدًا عدوانًا، وقد يكون حرابةً، وقد يكون قصاصًا عادلًا، وقد يكون جهادًا في سبيل الله، وقد يكون دفعًا للصائل، فيختلف تكييفه باختلاف المراد به، والفعل من الناحية العملية واحد ( إزهاق روح)، فالقصد إلى العمل يدخل به العمل في دائرة التكليف، ويخرج به عن أعمال الجمادات والعجماوات، وأعمال الغافل والذاهل والناسي ونحوه، أما ماذا قصد بهذا العمل فهو الذي يتحدد به تكييفه وتوصيفه شرعًا. والله تعالى أعلى وأعلم.
____________________________
([1]) أخرجه مسلم في كتاب «الصلاة» باب «فضل السجود والحث عليه» حديث (489).
([3]) أخرجه مسلم في كتاب «الجنة وصفة نعيمها وأهلها» باب «عرض مقعد الميت من الجنة أو النار عليه» حديث (2870) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.
([4]) أخرجه مسلم في كتاب «الجنة وصفة نعيمها وأهلها» باب «عرض مقعد الميت من الجنة أو النار عليه» حديث (2875) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.
([5]) متفق عليه؛ أخرجه البخاري في كتاب «المغازي» باب «قتل أبي جهل» حديث (3981)، ومسلم في كتاب «الجنائز» باب «الميت يعذب ببكاء أهله عليه» حديث (932)، من حديث عائشة رضي الله عنها.
([6]) أخرجه مسلم في كتاب «الجنائز» باب «ما يقال عند دخول القبور والدعاء لأهلها» حديث (974) من حديث عائشة رضي الله عنها.
([7]) أخرجه ابن عساكر في «تاريخ دمشق» (10/380) حديث (3174)، وابن الجوزي في «العلل المتناهية في الأحاديث الواهية» (2/911) حديث (1523)، كلاهما من حديث أبي هريرة t، وقال ابن الجوزي: «هذا حديث لا يصح»، وذكره العظيم آبادي في «عون المعبود» (3/261) وصححه من حديث ابن عباس مرفوعًا.
([8]) أخرجه أبو داود في كتاب «الصلاة» باب «فضل يوم الجمعة وليلة الجمعة» حديث (1047)، وابن ماجه في كتاب «ما جاء في الجنائز» باب «ذكر وفاته ودفنه صلى الله عليه وسلم» حديث (1636) من حديث أوس بن أوس الثقفي رضي الله عنه. وذكره النووي في «خلاصة الأحكام» (1/441) وقال: «رواه أبو داود بإسناد صحيح».
([9]) أخرجه أحمد في «مسنده» (1/387) حديث (3666)، والنسائي في كتاب «السهو» باب «السلام على النبي صلى الله عليه وسلم» حديث (1282)، والحاكم في «مستدركه» (2/456) حديث (3576) من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، وقال الحاكم: «صحيح الإسناد ولم يخرجاه».